رواية عشق لا يضاهي الفصل التاسع 9 بقلم اسماء حميدة
الفصل التاسع
استمع ظافر بصمت مريب وكأنما اجتاحه إعصار داخلي عصف بأفكاره فغير ملامح وجهه دون أن ينبس بكلمة
لم تكن إهانة طارق مجرد كلمات عابرة بل كانت كالسياط التي تجلد كرامة سيرين في العلن وكأنها وصمة عار لا تستحق الاحترام
وهذا تحديدا ما جعل الجميع يتعاملون معها وكأنها لا شيء لم يكن الأمر مقتصرا على طارق فحسب بل حتى شادية وماهر وطاقم العمل في القصركلهم نظروا إليها نظرة دونية وكأن وجودها عبء ثقيل أو كأنها ظل باهت لا قيمة له
لم تكن سيرين تجد يوما من يتعامل معها بإنسانية لم تعامل ككائن له كيان بل كدمية تحركها الأوامر ك مسخ مسلوب الإرادة يتلقى التجاهل كما يتلقى الهواء بلا أي اكتراث
رن هاتف طارق فجأة فتجعدت تعابير وجهه للحظة ثم استدار على عجل مغادرا دون أن يكلف نفسه عناء الاعتذار كان ك من يبحث عن أي فرصة للهروب من هذا الموقف أو ربما لم يكن بحاجة إلى ذلك فهو لم ير يوما أن وجود سيرين بحياة ظافر يستحق أي اعتبار
بعد أن غادر طارق غرفة المكتب امتدت يد ظافر إلى هاتفه دون وعي وكأنها تبحث عن طوق نجاة في بحر أفكاره المتلاطمة ألقى نظرة على الشاشة فوجد مكالمة فائتة من سيرين لتنتفض أنامله بإلحاح لا إرادي وهو يعيد الاتصال بها
لكن بدلا من صوتها استقبلته نغمة باردة تحمل جمود التقنية وخلوها من الدفء الذي كان يبحث عنه
عذرا الرقم الذي طلبته غير متاح حاليا يرجى المحاولة مرة أخرى لاحقا
تسلل الڠضب إلى ملامحه كخيط دخان يتصاعد ببطء فألقى الهاتف جانبا في انزعاج ثم نهض بخطوات ثقيلة نحو النافذة الزجاجية الممتدة من الأرض إلى السقف
وقف هناك يتأمل المدينة التي كانت تستيقظ من سباتها بينما في داخله كانت العاصفة لا تزال محتدمة
دس ظافر يده بجيب منطاله ليخرج علبة سجائره ملتقطا إحداها وأشعلها ببطء تاركا الدخان يتسرب إلى رئتيه كأنه يبحث فيه عن إجابة لم تكن يوما في متناوله لكن الكلمات التي همست بها سيرين قبل ساعات عند الفجر عادت تتردد بمسامعه ندمت
كلمة واحدة لكنها امتدت ك نصل خنجر سام غرز بقسۏة في أعماقه تبث مرارة لم يستطع ابتلاعها
ثوان وشعر بوخزة جافة في حلقه فسعل مرتين بقوة كأن جسده يحاول لفظ كل ما تبقى منها داخله
وفجأة اخترق صوته الأثيري صوت أنثوي من خلفه
يجب أن تدخن أقل ظافر إن ما تفعله أمر سيئ لصحتك
توقف قلبه لوهلة ف للحظة اعتقد أنها سيرين الټفت بعجلة لكن ما رآه لم يكن سوى دينا جالسة بجانبه كما لو أنها كانت هناك منذ البداية
هز ظافر رأسه بيأس بعد أن تأمله
بترو فقد كانت تبدو وكأنها خرجت لتوها من إعلان عن الحياة الزوجية المثالية بملابسها المهندمة وابتسامتها المحايدة التي لا تحمل أي دفء
ارتجف شيء ما بداخله للحظة ثم تلاشى وهو يشيح ببصره عنها قائلا بلا مبالاة
لماذا أنت هنا
تأملته دينا بعينين غارقتين في حنو مصطنع وكأنها تخشى أن ينهار رداء المثالية الذي تلبسته منذ زمن أمام ظافر دون أن تدري كيف لها تلتقط شتاته
قالت بنبرة حاولت أن تكسوها بالحياد بينما كانت الحقيقة تتغلغل في صوتها
السيدة شادية أرسلتني إليك فقد سمعت عن زواج سيرين من رجل آخر وأرادتني أن أخبرك ألا تشغل بالك كثيرا بالأمر وتعتبر سيرين مرحلة منتهية في مسيرتك
لكن في اللحظة التي نطقت فيها دينا بتلك الكلمات شردت في دوامة الماضي حيث الذكريات تتشابك كخيوط عنكبوت متينة تحاصرها دون أن تجد مهربا
جزت دينا على أنيابها بغيظ فهي لم تكن مستعدة أبدا لأن تجعل من سيرين غريمتها المنتصرة بطلة يحتفي بها الجميع حتى ولو كانت سيرين تستحق ذلك بالفعل ولكن دينا لن تمنحها فرصة لتظهر في نظر من حولها بدلا من سيرين تلك الضعيفة الصماء المهمشة لتحولها إلى امرأة فلاذية لا تقهر
قبل أربع سنوات كانت شادية وطارق في سيارة واحدة حين انقضت عليهما أياد خفية من شركة منافسة محاولة تصفيتهما بدم بارد
في هذا اليوم المخلد في ذاكرة دينا قد اجتاحت الفوضى المكان وأصوات الطلقات ترددت كصدى مۏت محتم وشادية ڼزفت ڼزفت حتى خارت قواها وحالما تم نقلها هي وطارق الذي أصيب أيضا إلى أقرب مشفى تبين أن بنك الډم الخاص بالمستشفى حينها كان يعاني نقصا حادا في فصيلة الډم O ووسط ذلك المشهد المحتدم لم يكن هناك سوى سيرين
لم تتردد سيرين للحظة بل تبرعت پدمها لكليهما اللذان وبمحض الصدفة كانا يمتلكان نفس فصيلة ډمها دون أن تنتظر شكرا لكنها دفعت الثمن غاليا ف بعد أن تيقنت أن طارق بخير سقطت مغشيا عليها إذ زحف الإرهاق لينهش جسدها الهزيل بعد ما استنزفته من دماء لإنقاذ حياة من جعلوها عدوة لهما دون سبب يذكر فقط كونها سيرين الصماء
في ذلك الوقت كانت دينا مدينة بالكثير لعائلة نصران التي احتضنتها في لحظة ضعفها وانتشلتها تلك الأسرة من الفقر والجوع بعد أن تعهدوا برعايتها ك فرد من العائلة
لذلك سعت دينا بكل جهدها للبقاء في السجل الذهبي لسيرين وأن تكون بصفها بل وتكسب ودها أيضا وحين سمعت بأن سيرين في طريحة الفراش بإحدى غرف المشفى عقب فعلها البطولي مع شادية وطارق لم تتردد في الذهاب إلى هناك لتجد نفسها شاهدة على حدث غير متوقع سيرين التي ظنتها مجرد فتاة عابرة قد ضحت دون تفكير
لإنقاذ طارق وشادية
لكن وكأن القدر كان ينسج خيوط لعبة أكثر تعقيدا إذ جرت سلسلة من سوء الفهم المشؤوم لترتدي دينا ثوب البطولة دون قصد أو ربما بقصد دفين لم ولن تعترف به
وهكذا استيقظت سيرين في المشفى على وقع إشادة الجميع بدينا باعتبارها منقذتها
ومنذ ذلك الحين ترسخ في ذهن دينا يقين لم تهزه أي شكوك إن كان هناك امرأة واحدة تستحق الزواج من ظافر فهي بلا شك أجل هي
ألم تكن هي المنقذ في نظر الجميع بعد أن طوعت لها الظروف ألم تكن اليد التي امتدت في أحلك اللحظات بمحض صدفة منحها لها الحظ كيف يمكن لأي رجل ألا يرى ذلك
لكنها لم تكن تعلم أن اللعبة لا تحسم بالرغبات وحدها إنها شادية تلك المرأة التي تحرك الخيوط من خلف الستار وبالطبع كان لديها سيناريو آخر
فبالرغم من أن شادية كانت تدرك تماما أن سيرين تعاني من مشكلة في السمع إلا أنها لم تتردد لحظة في اقتراح تحالف زواج مع عائلة تهامي ك خطوة محكمة لتعزيز نفوذ ظافر ولتحصين مستقبل العائلة بمزيد من القوة والسلطة
وهكذا وجدت دينا نفسها خارج الحسابات تتأمل رقعة الشطرنج من بعيد بعدما أسقطت من اللعبة قبل أن تبدأ
الآن وبعدما رفض ظافر أي ارتباط بسيرين وامتنع عن إنجاب الأطفال رغم مرور ثلاث سنوات على زواجهما بدأت شادية تخفض سقف طموحاتها وصارت تبحث عن حلول بديلة حتى وافقت أخيرا على أن تلتقي دينا بظافر
أخبرتها شادية بوضوح أن الأمر كله مرهون بحملها فإذا نجحت في ذلك فبإمكانها الزواج منه والانضمام إلى عائلة نصران
جلس ظافر في مكانه وملامحه غارقة في صقيع من البرود ثم تساءل بنبرة لم تخل من التوجس
من هو الشخص الذي وجدته سيرين
تذكر ظافر تلك الليلة عندما اتصل بها وجاءه صوت سيرين على الطرف الآخر من الهاتف واضحا صلدا كحجر صوان
لن أتزوج أي شخص مقابل ثلاثمائة مليون دولار
رفض ظافر أن يصدق أن كل المشاعر التي كانت تبثها له سيرين عبر السنين لم تكن سوى تمثيل خدعة بارعة أتقنت أداءها إذ كانت عيناها تتحدثان بصدق دائما أو هكذا ظن
على الجانب الآخر كانت دينا تتردد هل تصارحه بالحقيقة هل تخبره أن سيرين مجبرة على الزواج من رجل عجوز كانت تدرك أن كشفها لهذا السر قد يشعل نيران العطف في قلبه ويقلب الطاولة رأسا على عقب
لكن ظافر وكأنه شعر بترددها فقطع عليها الطريق بتحذير صريح حمل في طياته ټهديدا مستترا
طالما لا تعلمين من هو فلا تذكري هذا الأمر مجددا أبدا
تجمدت ملامح دينا للحظة ثم اكتفت بإيماءة خاڤتة ك خضوع صامت لا يخلو من الاضطراب
أما ظافر فقد ظل ذهنه مشرذما وكأن صخب الأفكار في رأسه تحول إلى ضجيج لا ينقطع فقد قضى بقية يومه غارقا في شروده يتساءل في أعماقه
هل حقا كانت سيرين مجرد كڈبة جميلة
في قبضة الليل بين الحياة والمۏت
كانت الغرفة تضج بصوت أجهزة العناية المركزة أنفاسها المرهقة تتردد عبر قناع الأكسجين كأنها تتشبث ببقايا الهواء الأخير هنالك كانت سيرين بجسد واهن وروح مثقلة تستلقي في جناح العناية المركزة بالمشفى تحارب غيبوبة قاتمة حاولت أن تبتلعها فلولا سرعة كارم في نقلها إلى المستشفى لربما كانت ستعبر إلى الضفة الأخرى بلا رجعة نعم فقد أنقذها باللحظة الأخيرة وانتزعها من فكي المۏت
وحين استعادت سيرين وعيها وقعت عيناها على فاطمة التي جلست جوارها كتمثال هش دموعها تنساب في صمت كأنها نهر بلا نهاية
شعرت سيرين بوخزة في قلبها وامتدت يدها المرتعشة لتربت على كف فاطمة المتشنج وهمست بصوت متقطع بالكاد يسمع
هذا لا يؤلم لا تبكي
لكنها كانت تكذب كل شيء كان موجعا الألم الذي في صدرها والثقل الذي أثقل روحها والندم الذي ينهشها في صمت
لطالما كانت خجولة ضعيفة تلجأ إلى الهروب بدلا من المواجهة اختيارها لحبوب النوم لم يكن إلا انعكاسا لجبنها المزمن لكنها الآن ترى فاطمة أمامها امرأة اڼهارت سنوات عمرها دفعة واحدة وكأن الزمن قد عبرها فجأة ونقش على وجهها خطوطا من الألم
شعرت سيرين بالعاړ كونها خذلتها كما خذلت نفسها
ضغطت فاطمة على يد سيرين بشدة كأنها تتوسلها أن تبقى وأن تتعلق بالحياة ولو بأطراف أصابعها كانت عيناها دامعتين لكن في صوتهما بقايا صلابة
سيرين استمعي إلي تحسني وعيشي حياة جيدة من الآن فصاعدا حسنا
لكن كيف تعدها بذلك كيف تعد بحياة لا تزال تجهل إن كانت ترغب بها
خارج الغرفة في ممر المشفى البارد كان كارم يقف أمام أحد الأطباء عيناه مثقلتان بأرق الأيام الماضية
وبالكاد استطاع الطبيب أن ينطق ببضعة كلمات تبدو عادية ولكنها سقطت كصاعقة
سيدي أجرينا فحصا آخر بعد الجراحة ولكننا اكتشفنا شيئا ما إنها حامل منذ أسبوعين
في تلك اللحظة لم يكن المۏت هو المفاجأة الوحيدة
قد يعجبك ايضا