اخر الروايات

رواية عشق لا يضاهي الفصل الثامن عشر 18 بقلم اسماء حميدة

رواية عشق لا يضاهي الفصل الثامن عشر 18 بقلم اسماء حميدة 

الفصل 18  

رفع طارق كأسه إلى شفتيه يرتشف محتواه دفعة واحدة وكأنه يحاول ابتلاع مرارة الحقيقة التي نطق بها للتو، ثم قال بصوت خاڤت لكنه نافذ كحدِّ السيف:  

**"ظافر... سيرين ماټت... دَع الماضي يرقد لعل روحها تجد سلاماً لم تحظى به صاحبتها."**  

لكن ما إن انسلّت كلماته إلى الفضاء حتى تسلّل إلى صاحبها إدراك مباغت؛ لم يكن يتحدث عن سيرين فحسب بل كان ينطق بلسانها كأنها تهمس من خلف ستائر الغياب تطالبه بأن يمضي دون أن يلتفت وأن يجعل ظافر هو الآخر ينفضها عن رأسه حتى تنعم في حياة أبدية كمن ترغب في أن يتناساها الجميع ولا يخلد أحد ذكراها.  

أما ظافر فقد بدا غارقًا في عالم آخر، ولم يلحظ ذلك الاضطراب الخفي الذي يسري في ملامح طارق بل ظلَّ مستغرقًا في القراءة، عينيه تتنقلان بين السطور في إيقاع رتيب، إلى أن قطع صمت اللحظة صوت الهاتف، متسللًا برنينه الحاد وسط هدوء المكان.

مدّ ظافر يده إلى الجهاز ونظر إلى الشاشة... **ماهر.**  

ضغط زر الإجابة دون تردد، فجاءه صوت ماهر عبر الخط ثابتًا لكنه محمَّلٌ بشيء من الاستعجال:  

**"السيد ظافر، لقد تعقبت تحركات كارم."**  

قالها ماهر ولم يُضِع وقتًا بل أرسل إليه الموقع مباشرة.

ضغط ظافر على الرابط ففتحت الخريطة على مزرعة صغيرة منعزلة عن العالم تحمل اسم **"مقاطعة سان"**.

التقط ظافر أنفاسه في شرود إذ لم الاسم غريبًا عليه لكنه لم يستطع استدعاء الذاكرة التي تحمله.  

مرّت لحظات من الصمت طال أمدها حتى باتت ثقيلة مما دفع طارق للتساؤل وهو يراقب ملامح ظافر المتصلبة:  

**"ماذا هناك؟"**  

لكن ظافر لم يُحمِّل حاله عناء الرد فقد اتخذ قراره، ونهض بعزم ينفض عن كتفيه أثر التردد، وقال وهو يلتقط معطفه بحركة حازمة:  

**"لابد وأن أذهب الآن، إذا حدث شيء هام هاتفني على الفور."**  

لم يُضِف ظافر شيئًا آخر فقط غادر تاركًا خلفه تساؤلات طارق التي لم تجد طريقها إلى لسانه، بل ظل يراقبه وهو يختفي عبر الباب محاولًا أن يفهم وجهة ظافر أو سبب استعجاله لكنه لم يجد إجابة.  

كان الليل قد أسدل ستاره، والهدوء الثقيل يلف القصر بأكمله، فشعر طارق بالإرهاق يتسلل إلى جسده إذ كان يومًا طويلًا والليالي الماضية شحيحة بالنوم لذا قرر أن يبقى هناك حتى الصباح لعل شيئًا من الراحة يجد طريقه إليه وسط هذه الفوضى التي لا تنتهي.  

عند الفجر، ترجل ظافر أخيرًا من السيارة ليجد نفسه في قلب مقاطعة سان، حيث كان المطر ينسكب بغزارة كأن السماء قد أثقلتها الذكريات فقررت أن تفرغ أحزانها على الأرض.

الهواء مشبع برائحة الطين المبتل، والصمت لا يقطعه سوى صوت ارتطام القطرات على الإسفلت البارد.  

رفع ماهر مظلته السوداء الكبيرة فور نزول ظافر كأنه يحاول أن يقيه من وابل السماء أو ربما من سيل الأسئلة التي بدأت تتزاحم في رأسه.  

تقدّم ماهر بخطوات ثابتة، وهو يتحدث بصوت منخفض لكنه نافذ كمن يسرد لغزًا يكشفه لأول مرة:  

**"عندما تتبعنا تحركات كارم، وجدنا أنه توقف هنا. بحثنا أكثر، فاكتشفنا أن امرأة مسنّة تعيش في هذا المكان... مربية السيدة تهامي. تلك التي تولّت رعايتها كأم متبنية منذ كانت طفلة."**  

تحت وطأة المطر المنهمر، ارتجف بريق عيني ظافر للحظة، كأن ذكرى بعيدة أفاقت فجأة من سباتها.  

**مقاطعة سان!**  

الآن فقط أدرك السبب وراء ذلك الشعور المألوف الذي تسلل إليه بمجرد رؤية الاسم.

**سيرين**! لقد ذكرته له مرارًا، لكنه لم يكن يُلقي بالًا للأمر حينها.  

في السنوات الثلاث التي جمعتهما تحت سقف واحد كانت هناك لحظات متكررة في مناسبات بعينها ترفع فيها سيرين عينيها نحوه بتوتر ظاهر ثم تهمس برجاء:  

**"ظافر... أنا في حاجة لأن أذهب إلى مقاطعة سان... هل يمكنني الذهاب؟"**  

كان ظافر حينها مشغولًا بحياته، غارقًا في دوامة أعماله، فلم يكن يهتم كثيرًا بمكان وجهتها أو سبب إلحاحها في السفر إلى هنا.  

كان يكتفي فقط بأن يرد بصوت خاڤت خالٍ من أي اهتمام:  

**"اذهبي حيث تشائين، ولا داعي لأن تخبريني فأنا لست مهتماً بما تفكرين به."**  

ورغم فتور رده كانت تخبره في كل مرة قبل أن تغادر كأنها تريد أن تترك أثرًا خفيًا لرحلاتها رغم يقينها بأنه لن يسأل عمّا تفعله هناك.

لم تكن سيرين كثيرة الخروج لكن كلما غادرت كان مقصدها واحدًا... **مقاطعة سان**.
أفاق من شروده على صوت ماهر وهو يشير إلى منزل متهالك مبني من الطوب بدا كأنه يحارب الزمن ليبقى واقفًا.  

**"هذا هو المكان."**  

اقترب ماهر من الباب يتلمّس المقبض، فوجد الباب مغلقًا بإحكام، فارتسمت على وجهه علامة استفهام وهو يتمتم بدهشة:  

**"ما هذا؟!"**  

نظر ماهر إلى ظافر، فالتقت عيناه بتلك النظرات الآمرة التي لا تحمل ترددًا... فأشار له ظافر إشارة قصيرة فهمها ماهر على الفور، وتحرّك على إثرها الحراس الشخصيون يقتربون من الباب استعداداً لتنفيذ أمراً غير منطوق ولم تمر ثوانٍ إلا وكان باب المنزل أسفل أقدام آمرهم، وقبل أن يتقدموا إلى الداخل قال ظافر بصوت حاسم دون أن يحيد بنظره عن فتحة الباب:  

**"انتظروا هنا."**  

أومأ ماهر بإيجاب صامت متراجعًا هو ومن معه خطوة إلى الخلف، بينما استعدت الريح لحمل الأسرار التي ستُكشف عمّا قريب.

بمجرد أن ولج إلى الداخل، ضړبته الرطوبة كصڤعة باردة، تسللت إلى جلده كأنها تحاول اختراق عظامه. الهواء مشبع برائحة العفن، كأن الجدران نفسها تحتضر ببطء، متشبثة بأثر حياة بائدة لم يعد لها وجود.  

تجول بصره في الأرجاء، ثم عقد حاجبيه في شرود. هل عاشت سيرين حقًا هنا في طفولتها؟ كيف احتملت هذا المكان الخانق؟  

بخطوات مترددة، توغل أكثر في المنزل الضيق، حتى استقرت عيناه على طاولة خشبية مهترئة تتوسط الغرفة. فوقها، رقدت صورة بالأبيض والأسود، كأنها شبح زمن مضى ظل معلقًا في انتظار من يوقظه.  

توقف الزمن في تلك اللحظة، اتسعت عيناه وهو يمد يده ليلتقط الصورة، ثم ثبتت أنظاره عليها لوهلة طويلة، أطول مما توقع. أصابعه تشددت حول إطارها، كأنها تستجوبها بصمت، تبحث بين ظلال اللونين الرمادي والأسود عن إجابة مقنعة لما يراه.  

سيرين… كانت تبتسم، ابتسامة ناعمة، هادئة، لكنها… حزينة. حزن دفين، كأنه نقش قديم محفور في عينيها لا يمكن محوه.  

شدّد ظافر قبضته على الصورة، ثم وضعها برفق على الطاولة، كمن يخشى أن يوقظ ذكرى قد ټنفجر في وجهه. ثم تمتم بمرارة:  
**"ما هذا بحق الچحيم؟ هل هي ممثلة بارعة لهذه الدرجة؟ هل هذه صورة لجنازة أم لمشهد من فيلم قديم؟ أي نوع من النكات السوداء هذه؟"**  
لم يدرك أن صوته كان يرتجف، لكن ارتعاشه تسلل إلى أذنيه كتحذير لم يستطع تجاهله.  

كان المنزل أصغر مما تخيله، غرفتان فقط ومنطقة مشتركة بالكاد تحتوي بعض الأثاث المتناثر. طاولات، كراسٍ، لا شيء ذو قيمة تُذكر. بعينيه الحادتين، راح يمسح المكان بحثًا عن أي دليل… ولكن الفراغ هو كل ما وجده.  

وفجأة… شق صوت الرعد أجواء الصمت، تبعه وميض برق خاطف، أضاء الغرفة للحظة قصيرة، وكأنه يبعث الحياة في الصورة مجددًا، يذكره بأنه ليس وحده في هذا المكان.  

بصوت حازم، الټفت إلى ماهر وأمره:  
**"ابحث عن مربية سيرين… أريد أن أعرف إلى أين اختفت."**  

أومأ ماهر فورًا: **"أمرك، سيد نصران."** ثم انطلق خارجًا.  

أما ظافر، فوقف ساكنًا للحظات، ثم أشار لحراسه الشخصيين بالمغادرة. أراد أن يكون وحده هنا، أن يواجه الفراغ والصورة والرائحة العتيقة وحده، أن ينتظر صاحب هذا المنزل ليعود ليجيب عن الأسئلة التي بدأت تنمو داخله كأشواك متوحشة.  

ظل منتظرًا… يومًا كاملًا مر عليه كدهر. وأخيرًا، مع انقشاع الغيوم في فترة ما بعد الظهيرة، سمع أصوات الجيران في الخارج يتحدثون…


قد يعجبك ايضا
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close