رواية عشق لا يضاهي الفصل السابع عشر 17 بقلم اسماء حميدة
الفصل 17
بالطبع لم تكن دينا تتذكر شيئا من ذلك لكن ما لم تستطع نسيانه أبدا هو قدرتها الفطرية على قراءة الآخري وكأنها تمتلك عينا ثالثة تتسلل إلى دواخلهم تلتقط تلك الارتعاشة الخفيفة في زاوية الفم أو النظرة المشتتة التي تنم عن سر دفين
ذلك اليوم راقبت طارق عن كثب كان مختلفا متوجسا كمن تحاصره الذكريات ولا يجد مهربا منها
عيناه ظلتا تتنقلان بين وجهها وذراعيها كأنهما تبحثان عن إجابة محفورة في الجلد لذلك استشعرت قلقه فقررت أن تناور
تظاهرت بأنها تذكرت وأجادت الدور كما اعتادت دائما فابتسمت نصف ابتسامة وكأنها تستدعي الماضي من أعماق الذاكرة وقالت بصوت يفيض بالحنين
بالطبع أتذكر في ذلك اليوم كنت مړعوپة فلقد ظننت أنك ستفارق الحياة بين لحظة وأخرى
توقفت لبرهة عن استكمال حديثها متعمدة أن تترك كلماتها تتسلل إليه ببطء ثم تابعت بنبرة تملؤها المبالغة المدروسة
كانت السيارة قد تحولت إلى كومة من الخردة بالكاد استطعت أن أفتح بابها لأتمكن من سحبك للخارج! لم أشعر بالألم حينها لكنني أدركت لاحقا أنني كنت مليئة بالچروح والخدوش ذراعاي تحملان آثار ذلك حتى اليوم
خفضت عينيها قليلا وكأنها تتذكر شيئا مؤلما ثم غمغمت بنبرة أكثر درامية
لم يكن الأمر سهلا الندوب كانت بشعة لدرجة أنني اضطررت للخضوع لعملية جراحية لإزالتها
راقبها طارق بصمت وعيناه تضيقان كما لو كان يحاول غربلة الحقيقة من بين كلماتها لكنه لم يكن الرجل الساذج ذاته الذي كان عليه في الماضي ولم يعد يثق بالكلمات بقدر ما يثق بالذكريات التي تحفر نفسها في عقله بلا رحمة
في تلك الليلة المشؤومة الفتاة التي أنقذته لم تقل له ألا ېخاف بل همست له مرارا بصوت ثابت رغم الفوضى
لابد وأن تبقى قويا
كانت تلك العبارة وحدها هي التي ما زالت ترن في ذهنه بوضوح كضوء النهار
وقف طارق على عتبة الرحيل بعد أن فرغوا من تناول طعامهم لكنه لم يغادر فورا فبدلا من ذلك أدار وجهه نحو دينا وألقى عليها نظرة مطولة لم تكن تحمل في طياتها مجرد تأمل عابر بل كانت تحقيقا صامتا أشبه باستجواب غير منطوق اختبارا لنقاء الكلمات قبل أن تخرج من شفتيها
ثم نطق بصوت منخفض لكنه كان مشحونا بمعان ثقيلة
دينا أنت تعرفينني منذ زمن بعيد ينبغي أن تدركي جيدا أنني لا أحتمل الكذب لا أقبله ولا أسامح عليه
تسارعت دقات قلبها وكأنها طائر حشر في قفص ضيق
لم تكن كلماته ټهديد مباشر لكنها تسللت إلى أعماقها كجمرة اشتعلت في هشيم مخاوفها
راقبته وهو يغادر بينما رعشة غير مرئية تسري في أطرافها وبعد أن خلت بنفسها غاصت في دوامة أفكارها ومن ثم ابتسمت بخبث حالما أدركت
أن سيرين هي الشاهدة الوحيدة على ما حدث وها قد رحلت إلى الأبد لذا لم يعد هناك من يستطيع أن يبوح بالحقيقة لطارق وإن انتابه الشك فلديها دائما سلاحھا الأخير الإنكار
لكن طارق لم يكن من النوع الذي يترك الأسئلة معلقة في الهواء وما إن عاد إلى قصره الفخم حتى اتخذ قراره بلا تردد ملتقطا هاتفه وأصدر أوامره لشخص ما بالتحقيق في ما جرى في ذلك اليوم المشؤوم
ألقى طارق بحمل جسده على أقرب مقعد فلطالما أعتقد أن دينا هي منقذته ولم يشكك يوما أبدا في روايتها ولم يكلف نفسه عناء البحث حينها إذ لم يظهر أحد ليناقضها أو يطالب بمكانها في القصة لكنه الآن وهو يربط الخيوط المتناثرة بات يدرك أن هناك احتمالا احتمالا واحدا لم يكن يريد مواجهته
كان يأمل فقط ألا يكون قد وقع في خطأ حتى يريح ضميره الذي ينغص عليه هدوءه بعد أن غدر بسيرين كما فعل الآخرين ولكن هو الأكثر خسة من بينهم إنها ملاكه الحارس هي منقذته الحقيقة في حال أن ما كانت تدعيه دينا مجرد وهم
إليك إعادة الصياغة بأسلوب أدبي بليغ ومفعم بالمشاعر والتشبيهات المتناغمة على طريقة أحمد مراد
توقفت سيارة ظافر أمام قصر آل نصران وألقى بجسده المتوتر على المقعد الجلدي الليل يلف المدينة بردائه الداكن والهواء المشبع بالدخان يعكس اضطراب روحه كان قد زار شقة إيفات القديمة صباحا لكن المكان بدا مهجورا كأنما لم تطأه قدم منذ زمن
عيناه كانت مسمرة في الفراغ أفكاره تتخبط بين احتمالات يرفض قلبه تصديقها لقد أرسل رجاله في كل الاتجاهات للبحث عن سيرين مصرا على أنها لا تزال حية لكنهم عادوا إليه بقبضات فارغة كان يرفض التسليم بغيابها يرفض مجرد التفكير في كونها ماټت
عندما بدأ صداع حاد يزحف إلى رأسه فتح باب السيارة بخطوات مثقلة ودلف إلى القصر وما إن عبر العتبة حتى تجمدت قدماه هناك وسط الرواق وقفت سيرين
اتسعت عيناه واندفعت نبضاته كأنها تريد الخروج من صدره ركض نحوها يمد ذراعيه كمن يركض نحو الحياة ذاتها اشتاقها حد الألم جسده ېصرخ مطالبا بضمھا باستعادة ملمسها بحرارة وجودها ولكن في اللحظة التي كاد يلمسها تلاشت أمامه كما يتلاشى السراب في وهج الصحراء
توقف فجأة ليتلاشى كل شيء من حوله أيضا
أدرك حينها أنه كان يلهث خلف وهم خلف هلوسة أوجدها عقله المعذب
استند إلى الأريكة بضعف مدلكا جبهته في محاولة منه ليخفي بؤسا فضحته عيناه
ولكن هيهات إنه لم يذق النوم ليلة أمس وحتى الآن كان الإرهاق ينهش جسده لكنه مع ذلك ظل مستيقظا وكأن النوم ذاته قد أعلن العصيان عليه
لم يستطع تصديق أن سيرين رحلت كيف يمكن لها
أن تختفي هكذا لقد كانت بخير كانت هنا معه بالأمس!
طرق مفاجئ على الباب قطع أفكاره فنهض مسرعا وكأنما يتشبث بأي شيء يبقيه على قيد الواقع
فتح الباب ليجد طارق واقفا هناك عابس الوجه منهك الملامح يحمل بين يديه حقيبة ممتلئة بالملفات
ظافر هذه هي السجلات الطبية الخاصة سيرين قالها بصوت خفيض وهو يناوله الأوراق المتراكمة بين يديه
تردد ظافر لحظة قبل أن يمد يده ليلتقطها كانت الملفات ثقيلة مئات الصفحات لكنه بدأ يقلبها واحدة تلو الأخرى يبحث عن إجابة وسط بحر من الكلمات المطبوعة ولكن كل صفحة كانت تزداد ثقلا لتطبق على صدره
جلس طارق أمامه وصمت لحظة قبل أن ينطق بالكلمات التي أشعلت النيران في صدر ظافر
ظافر لقد رحلت سيرين حقا الآن ولابد من أن تتقبل ذلك
حملقت عينا ظافر في الأوراق لكنه لم يرفع رأسه فتابع طارق يقول بصوت يملأه الألم
لقد رأيت من السجلات أنها كانت تعاني من اكتئاب حاد وكانت حاملا أيضا قبل بضعة أيام فقط لجأت إلى تدابير متطرفة من خلال تناول جرعة زائدة من الحبوب المنومة كادت أن ټموت حينها ولكن هذه المرة اختارت قطع معصميها ولم يتمكنوا من إنعاشها
عند سماع كلمة حامل توقفت يد ظافر عن تقليب الصفحات كأن الزمن جمده في لحظة واحدة أبدية
لم يرد فقط تابع القراءة عيناه تهرولان على الكلمات كمن يحاول إعادة ترتيب العالم في رأسه
كل حرف كان يسحق صدره أكثر وكأن صخرة هبطت على ضلوعه لتسحق أنفاسه ومع ذلك لم يقل سوى
هل كانت مكتئبة بشدة إذن هل كان هذا خطئي لم أجبرها على الزواج مني!
كلماته خرجت كأنها دفاع يائس لكنه سرعان ما وجد نفسه أمام السجل الذي كشف الحقيقة الأكثر إيلاما تاريخ الحمل
حملق في الكلمة المكتوبة أمامه حامل ومرر إصبعه ببطء فوقها كأنما يحاول استيعابها بأطرافه قبل أن يستوعبها عقله حلقه ضاق الهواء بات خانقا لكنه رغم ذلك همس بكلمات كالسياط
من يدري من هو الأب الحقيقي لطفلها
ارتسمت الصدمة على وجه طارق لكن ظافر لم يكن بحاجة إلى نظرة شفقة كان يحتاج إلى إجابة كان يحتاج إلى يقين حتى لو كان اليقين نفسه سيقتله
قد يعجبك ايضا