انقضت نصف المهمة بدفن الفقيدة في الأرض الاجنبية، نظرًا لاستحالة نقلها إلى أرض الوطن بتلك الاجراءات المعقدة، وظروف الوقت القصير مع صعوبة الأمر، فالفقيدة كانت في الأساس في نظر ذويها متوفاة منذ سنين مضت، بعد حادثها مع حكيم ، وقد اختارت وباعت الاهل وكل شيء مقابل الاستقلال والرفاهية في الدولة الغريبة حتى صار بها مثواه الاخير.
اما عنه فقد أحسن إكرامها كما لو كانت من اهله بالفعل، وكل ذلك بالطبع كان من اجله، من أجل ذلك الجالس الآن بركن وحده في حديقة منزلهم، بعد عودتهما من دفنها، بصمت يتخذه نهجًا منذ ان قدمه محامي العائلة، وقام بتعريف صفته من القرابة اليه، لم يعترض ولم يصدر منه أي رد فعل لرفضه، بل ظل مستلسمًا لكل ما قد تم فعله، ليأتي الان الشيء الأصعب على الطرفين، او بالأصح عليه هو، كيف يتواصل معه كي يتقبله؟ كيف يقنعه بالسفر وترك المدينة التي نشأ بها، وقد حان وقت الرحيل من البلد بأكملها.....
تقدم منه عدي، والذي كان يراقب حيرته هو الاخر، عارضًا المساعدة:
- اروح افتح معاه انا وامهدله عنك؟
اجابه بنزق:
- تمهدله ايه يا عدي؟ ما هو عرف اني اخوه، الموضوع بقى عليا انا دلوقتي، لازم اكسر الحواجز ما بينا، مينفعش الوسيط
اومأ عدي رأسه بتفهم:
- مهمتك صعبة بس ربنا يعينك .
زفر بتمهل، ليشجع نفسه حاسمًا هذه المرة:
- يبقى مامنوش فايدة الانتظار اكتر من كدة، عن اذنك هارحله.
تفوه بها وتحرك يتجه مباشرة نحو شقيقه دون تردد، والذي انتبه عليه هو الاخر يطالعه بأبصاره حتى اقترب يستأذنه في الجلوس بجواره على الارجوحة متفوهًا باللغة الإنجليزية:
- I want to sit next to you.
جاء رد الصغير يفاجئه:
- اتفضل
صعق بإجفال حين وصلت لأسماعه الكلمة بالعربية حتى تسمر امامه بعدم تصديق ليؤكد له الاخر بقوله:
- ماما كان كل كلامها معايا باللغة العربية،
- كووويس اوي
صدرت منه بشيء من الارتياح لم يدم كثيرًا حينما اردف ادم متابعًا :
- دا غير اني كنت عارفك من الاول، لأنها كانت دايما بتكلمني عنك انت وبابا الله يرحمه.
سأله بريبة ووجه مخطوف:
- كانت بتقولك ايه بالظبط؟
وكأن الصغير ود التلاعب به، صمت قليلًا يطالعه بملامح مبهمة قبل أن يعطف عليه بالإجابة:
- كانت بتقولي أن انت اللي بتصرف علينا من فلوس بابا الله يرحمه ، لأنه كان راجل أعمال كبير وانت زيه، وكانت عايزاني اكبر بسرعة عشان ابقى زيكم انا كمان .
- اها
تمتم بها بتفهم لشخصية الراحلة، فماذا كان يتوقع، يحمد الله انها لم تشوه صورته امام شقيقه، ليدخل بصدره بعض الهواء ويجلس على الارجوحة يجاوره مردفًا:
- كويس انها كانت مفهماك وضعك، واضح كمان ان عقلك سابق سنك، يعني بكرة ان شاء الله تبقى رجل اعمال اكبر مني ومن والدك.
ناظره ادم بملامحه المغلفة يباغته؛
- بس انا شوفتك وانت بتحاول تخنقها
اللعنة، انه يذكره بهذا اليوم حينما انفعل عليها ، ليبتلع رمقه بتوتر يجاهد لإخفاءه في البحث عن رد يناسب عمره:
- مكنتش طبعا عايز اخنقها، دي بس كانت لحظة انفعال لما....
- لما ماما رفضت تسلمني ليك.
- ايه؟
- ماما قالتلي انك كنت عايز تاخدني منها و
هي رفضت فحصلت مشادة ما بينكم لدرجة انها شتمتك
- ايه؟ شتمتني انا؟
-
- اه وانت مستحملتش الشتيمة واتعصبت عليها.
رغم غضبه من التحميل عليه بشيء لم يحدث من الاساس ، إلا أنه لم يملك الا التغاضي وتمرير القصة الوهمية التي اختلقتها هذه المرأة من أجل شقيقه ذاك الذي يتحدث بصدق وذكاء يثير الإعجاب.
- ماشي يا ادم، ع العموم خلينا نعدي اللي فات ونركز في الحاضر، انت هتيجي معايا على مصر، احنا دلوقتي ملناش غير بعض، واوعدك ان مش هتعصب عليك ولا ازعلك.
فرك ادم بكفيه الصغيرين بتفكير متعمق، ليتأمله رياض بإعجاب، يتمعن ملامحه عن قرب، يحمل ما بين صفات العائلة، وسمة البلد التي نشأ بها، البياض الشديد والشعر الأسود الحريري الطويل نسبيا، العيون الواسعة والأنف المستقيم بإرستقراطيه، تطغى عليه وسامة حكيم بالإضافة إلى الذكاء والمرواغة كما يحدث الآن، في جعله يحترق للإجابة التي أتت بعد فترة من الوقت؛
- تمام انا موافق.
❈-❈-❈
قلق شديد يعصف بها منذ الامس، وذلك بسبب انقطاعه المفاجيء عن مهاتفتها، حتى الرد على محاولاتها في الاتصال به لا يجيب، مكتفيًا بتلك الرسالة المبهمة التي ارسلها اليها يطمئنها انه مشغول جدا وحينما يفضى سوف يتصل بها، ومع ذلك لم يفعل، تذكر حينما أخبرها انه انهى كل اعماله هنا وهو الآن على وشك المغادرة والعودة إلى أرض الوطن، إذن ما الذي حدث؟
- اللبن يا بيبو.
هتفت بها عائشة وهي تسرع بيدها لإطفاء الموقد قبل أن يفور الحليب عليه ويطفئه وقد كان على وشك. نتيجة لشرود شقيقتها التي لم تنتبه سوى الآن، لتبدي امتنانها لها:
- متشكرة اوي يا عائشة، معلش سهيت ومخدتش بالي .
ضحكت عائشة تساعدها في وضع باقي الأطباق على صنية الطعام التي تعدها للإفطار معقبة بمكر:
- معلش يا بيبو، اللي واخد عقلك يتهنى به.
بكف يدها لطمتها بخفة على جبهتها:
- ومين هياخد عقلي على أول الصبح كدة يا مصيبة؟ شيلي يا بت الصنية دي واطلعي بيها شيلي.
اذعنت ترفع الصنية مرددة بمزاحها كالعادة:
- حاضر والله يا أبلتي حاضر، هو احنا نقدر على زعلك يا ست بيبو .
قالتها وتحركت خارجة من المطبخ تتبعها بهجة التي حملت خلفها، صنية الحليب والشاي، وقد كان في انتظارهم ذاك الذي تلقفهما من وسط الطرقة يحمل عنهما ، ليتناول الطعام بعجالة معلقًا:
- خمس دقايق كمان وكنت هروح ع الكلية من غير فطار، يرضيكي كدة يا بيبو؟
تبسمت تخطف قبلة من وجنته:
- لا طبعا ما يرضنيش، سيادة الدكتور المحترم يدخل محاضراته ولا السيكشن على لحم بطنه، دي حتى تبقى عيبة في حقنا
- حبيبتي
تمتم بها ليأتي التعقيب من جنات التي تجهزت هي الاخرى لجامعتها:
- هيسوق لنا فيها بقى، ما تاكل اي حاجة في طريقك وانت ماشي يا سيدي، مش المهم انك ترضي بطنك وخلاص،
عقبت عائشة هي الاخرى:
- كبري مخك منه يا جيجي دا البالطو الأبيض لحس مخه خلاص.
رمقهم إيهاب متصنعًا التعالي والازدراء، فتدخلت بهجة بسلطتها على قلوبهم :
- انتو هتتفقوا عليه انتي وهي عشان ما هو الولد الوحيد وسطنا، لا اصحو كدة دا في حمايتي
هلل شقيقها مغيظًا لهم:
ايوة بقى انا في حماية الكبيرة، يعني تقفلي بوقك يا قرشانة انتي وهي، انا في حماية عُليا .
تعبيرات الامتعاض على وجهي الاثنتان كانت أجمل رد لبهجة التي صارت تضحك لمشاكساتهم، حتى قطعت بانتبهاها لدوي اتصال بهاتفها، فركضت سريعًا تتناوله أعلى الطاولة الجانبية، لكن خاب املها حينما رأت رقم صديقتها، وليس هو
فتجيبها بنبرة يتخللها اليأس:
- الوو، اهلا يا صفية عاملة ايه؟....... اروح معاكي فين؟..... لا مش هينفع النهاردة احتمال كبير اتأخر في الجمعية، ممكن تجيني الكافيه على سبعة المسا، او بعد ما تخلصي شغلك نخرج مع بعض
❈-❈-❈
كانت في طريقها إلى عملها، حينما انهت المكالمة مع بهجة بعد اتفاقهما على موعد للقاء معًا، لتتوقف بسيارتها امام البناية التي بها مكتبها، فتقع عينيها عليه مستندا بظهره على سيارته، ف المكان الذي تصطف به سيارتها، بهذه الابتسامة المستفزة، يبدو واضحًا انه ينتظرها.
ترجلت تضع اقدامها على الارض، عينيها نصب عينيه بتحدي، فتغلق باب السيارة بعنف وتتجاهل إلقاء التحية له عن عمد، وتتخذ طريقها نحو مدخل البناية ثم دلفت داخل البنايه لتصعد آلى طابقها، دون ان تهتم حتى بالالتفاف للخلف، في تصميم على إظهار عدم الإكتراث ، رغم دوي قلبها الذي كان يضرب بقوة داخلها، ولا تعلم لماذا؟
وصلت امام المصعد ولم تتوقف دقيقة فقد فتح امامها على الفور، يخرج منه عدد من البشر ، لتحل محلهم وتلج داخلها ، وما ان أعتدلت بظهرها لتضغط على ذر الطابق الذي تريده، حتى اجفلت به ينضم معها والمصعد يغلق عليهما فيتكفل هو بمهمة اختيار الطابق مرددًا بمرح يحمل غيظًا خفي:
- كدة برضو يا أستاذة تعدي من غير ما ترمي التحية، دا حتى السلام لربنا .
انتابها الحنق الشديد وانتفخت ذاتها بتلك الندية التي تجعلها على وشك التحفز دائمًا :
- واسلم ولا ارمي التحية ليه؟ ايه اللي بيني وبينك من اساسه؟ هما حيالله كلمتين لسه ما تبتش الأمر فيهم.
وبرد فعل سريع قصر المسافة الفاصلة بينهم لتصير مجرد سنتيمترات، ويصبح بكليته امامها بالكامل، قائلا بتسلية:
- وايه اللي مأخرك؟ ما تبتي يا ستي في الامر
انتفضت يلتصق ظهرها بالمرأة من خلفها وانفاسها تصعد وتهبط بتوتر شديد أصبح يقبض على انفاسها، فترفع سبابتها امامه بتهديد وتحذير، وكلمات تخرج بصعوبة:
- سيادة الدكتور المحترم، ارجوك بلاها منها الحركات دي، احنا مش عيال صغيرين.
رد بهدوء لا يخلو من حزم، يتأمل جمال سوداوتيها كقمرين اسودين بكامل سحرهما رغم الزعر الذي يرتسم داخلهما، وجهها على هيئة قلب يميزه طابع الحسن اسفل الذقن، البشرة الخمرية النضرة، جمال مصري اصيل، رغم عدم اهتمامها بذلك الأمر ولكن الأجمل هو ذاتها.
- ما احنا فعلا مش عيال صغيرين، احنا ناضجين وفاهمين، يعني مالوش لازمة نلف وندور على بعض، انتي عايزاني زي ما انا عايزك، حتى لو بينتي غير كدة.
زاد الرعب داخلها تأثرًا بهيئته الجديدة امامها، رغم العبث الذي يدعيه دائمًا إلا أنها ولأول مرة يكتنفها الرعب من رجل ويكون هو،
- ابعد عني، والا والله... والله .
صارت تردد بها بصورة أثارت قلقه، حتى أنه غفل عن السبب وهو يحاول الإطمئنان عليها:
- والله ايه؟ هو انتي عندك فوبيا من الأماكن الضيقة، ولا ايه اللي حاصل معاكي بالظبط؟
ماذا تخبره؟ وهي في الأساس تخشى منه هو نفسه، ضافت انفاسها حتى اسودت الصورة امام عينيها فلم تعي بشي بعد ذلك، ولا بجسدها الذي سقط فجأة عند اقدامه:
- صفية، صفية مالك؟
❈-❈-❈
دفع الباب ليدلف داخل مكتب المحاماة الخاص بها حاملا لها بين ذراعيه، حتى اجفل الفتاة مساعدتها في العمل، لتنتفض في استقباله:
- يا نهار اسود، هي الأستاذة جرالها ايه؟
هدر بها بصرامة:
- انتي لسة هتسألي؟ روحي افتحي اوضتها عشان اريحها على اي كنبة وافوقها .
ركضت الفتاة تفتح له باب غرفتها ليدلف ويسطحها على الأريكة القريبة من المكتب، فتخاطبه بلهفة:
- اروح اجيب لها قزازة ريحة نفوقها بيها؟ ولا اتصل بدكتور احسن؟
هتف بها حازمًا:
- انا الدكتور يا بنتي، تعالي ساعديني عشان افوقها
بحيرة اعتلت تعابيرها، اقتربت تسأله بفضول، وهي تراه ممسكًا رسغ يدها بعملية يقيس النبض
- طب انا اعمل ايه يا دكتور؟ واساعدك ازاي؟
رمقها بغيظ يأمرها:
- فكي الحجاب بتاعها الأول خليها تاخد نفسها.
على اثر صيحته الاخيرة انتفضت تنفذ ما أمرها به ، تراقب ما يفعله في افاقتها بتركيز شديد، لكنه لم يمنعها من سؤاله:
- حضرتك تعرفها منين؟ ولا هي وقعت قدامك صدفة يا دكتور؟
كانت صفية في هذه اللحظات بدأت تحرك عينيها في بدايه للعودة لوعيها، ليطمئن قلبه بعض الشيء فيجيب تساؤل هذه الفتاة الفضولية، بجدية الواثق:
- انا خطيبها يا آنسة.
شهقة عالية صدرت من الفتاة حتى ارتد اثرها على صفية لتفتح عينيها بالكامل فيصلها صوت الفتاة :
- يعني إنت بجد خطيب الأستاذة صفية؟ طب هي مقالتش ليه؟ مقولتيش ليه أستاذة انك مخطوبة لدكتور وزي القمر كده ؟
تبسم بمكر وقد أعجبه رد فعلها، وعيناه لا تفارق تلك التي بدأت تنتبه اليه والى وضعها امامه، وارتسم الجزع على ملامحها لتنتفض بجذعها صارخة به؛
- انا جيت هنا ازاي؟ وانت قاعد قدامي كدة ليه؟ ايه اللي حصلي؟
جاء الرد من الفتاة مساعدتها بلهفة:
- يا أستاذة متقلقيش ولا تخافي، انت كان مغمي عليكي والدكتور خطيبك هو اللي فوقك.
- خطيبي!
تمتمت بها بأعين توسعت فجأة ليلحق هو مخاطبًا الفتاة:
- بسرعة يا اسمك ايه هاتيلي كوباية ميه عايز اشرب، وياريت تعملي كوباية عصير للأستاذة الآنسة صفية.
- من عيوني.
قالتها الفتاة وركضت بحماس تترك لهما المجال لتبدأ بينهما جولة من النقاش المحتدم:
- البت سندس بتقول عليك خطيبي، مين فهمها كدة؟
ردد بمرواغة:
- يعني اللي خرجت دي اسمها سندس؟ طب والله ما اعرفها، بس هي اكيد مش هتألف من مخها، ما هو انا كمان، كان لازم ارد على سؤالها لما سألتني وانا داخل بيكي شايلك.
- داااخل بيا شايلني! يعني انت شيلتني بجد؟
تردد بها بهلع وهو يزيد عليها بقوله:
- ايوة طبعا بعد ما اغمى عليك في الاسانسير، كان لازم اطمن عليكي، دا انتي قعدتي يجي ساعة افوق فيكي.
- ساعة كمان تفوق فيا.
استدركت لكلماته لترفع يدها على شعرها، فتعي على وضعها بدون حجاب لتنتفض فجأة من جواره ناهضة بهلع، حاول تخفيفه عنها:
- خلي بالك ان سندس كانت معانا، وهي اللي قلعتك الحجاب عشان تفوقي .
تجالهت كل ما تفوه به، وقد توقف عقلها على شيء واحد:
- قاعدة ولا مش قاعدة ميهمنيش، المهم اني كنت بشعري! بقالي ساعة قدمك بشعري! يا نهار اسود، يعني انا شعري انكشف قدامك ؟!!
تبسم بخبث يجيبها ببساطة:
- وليه الخضة دي بس؟ ما انا يعتبر برضو خطيبك ، ولو مكانش يبقى الاسلم توافقي عشان ما يبقاش شعرك انكشف على حد غريب
سمعت منه، فتحولت ملامحها لقطة شرسة على وشك الهجوم على خصمها لولا دخول مساعدتها بصنية تحمل ما قامت بإعداده:
- العصير والميه يا حضرة الدكتور
❈-❈-❈
حطت الطيارة التي تحمل الشقيقين على أرض الوطن، فكان في استقبالهم كارم، في بادرة منه للدعم والمؤازرة، بعدما علم من صديقه عدي بالقصة كاملة، والذي اوصاه من جانبه هو الاخر بالاهتمام.
ليتكفل ويقلهما داخل سيارته، وحديث دائر بين الشريكين لا يُخفي القلق.
- كل حاجة تمام في الشغل، متقلقش خالص.
- اكيد مش قلقان يا كارم، حتى لو تقلت عليك، انا عارف انك قدها وقدود.
تفوه بها رياض يعرب عن امتنانه الشديد له، حيث كان جالسًا على الكرسي المجاور له في الامام، وشقيقه في الكنبة الخلفية، يشاهد من نافذة السيارة أجواء البلد التي يراها لأول مرة، ليشاكسه كارم بقوله:
- عجبتك البلد يا آدم؟ اوعى تقول لا وتقارنها بالبلد اللي عيشت واتربيت فيها ، ازعل منك.
اومأ له ادم بإجابة مقتضبة قائلا:
- بالعكس هنا أجمل، على الاقل الشمس في كل مكان ودافية.
تبسم كارم يردد ضاحكا باستدراك؛
- اااه، ياعيني انت صحيح متربي ع التلج والضباب، الشمس بتطلع زي هلال العيد عندكم .
هذه المرة كان الرد مستجيبا لمزاحه بابتسامة صافية، ليردف كارم في ترحيب له:
- منور بلدك يا آدم، وان شاء الله بكرة تبقى سعيد بصحبتنا .
أضاف على قوله رياض:
- ان شاء الله..... وبكرة هو يشوف بنفسه....
شعر كارم من نبرته بثقل لسانه، ومدى ما يعتريه من هم، ليعقب بسؤاله مستفسرا عن القادم:
- طب انت كدة هتعمل ايه؟ هتروح بيه على بيتكم ولا فين بالظبط؟
رد يجيبه بتنهيدة خرجت من العمق:
- انا هقولك دلوقتي على فين تروح بينا؟
❈-❈-❈
وصل به كارم إلى منزله الخاص، فلم يجرؤ على الذهاب به إلى والدته، خشية حدوث انتكاسة لها بهذه المفاجئة المدوية، لابد من التمهيد والحذر الشديد في مفاتحتها، ف الأمر ليس بالهين على الإطلاق.
كان في استقبالهم جوليا الخادمة الإيطالية والتي رحبت به بحفاوة بلكنتها الغير متقنة، ليقوم بتقديمها اليه، بعد انصراف كارم لمتابعة الأعمال المشتركة بينهما:
- دي جوليا يا ادم اشطر واحدة في العالم تعمل مكرونة ايطالي، وكل انواع البيتزا اللي انت بتحبها، اطلب منها وهي تعملهالك، دا لو ليك فيها يعني.
في استجابة منه، اومأ بهزة خفيفة من رأسه ليجفله بسؤاله:
- مامتك؟
ضحكت جوليا وقد فهمت عليه، ليسارع هو بالنفي:
- لا يا ادم مش هي، والدتي هعرفك عليها بعدين شوية مش دلوقتي، حضريلنا انتي الغدا يا جوليا وتعالي انت يا حبيبي اقعد، وبعدين ابقى اتعرف على البيت براحتك بعد كدة.
توجه اليه بالأخيرة، حتى يكف عن السير في ارجاء المنزل وتأمله ، ليياغته ادم مرة أخرى بأسئلته:
- طب وانت هتعيش معايا ولا معاها؟
اخذ برهة قليلة من التفكير قبل يحسم بإجابته:
- معاك يا ادم، لحد ما ربنا يحلها ونجتمع كلنا في بيت واحد، وعلى ما يجي اليوم ده، هحاول اخلص كل الإجراءات وادخلك المدرسة والنادي اللي تمارس فيه هوايتك، انا عارفك انك هتتعب شوية في البداية عشان متعرفش حد في مصر بس بعد كدة......
- لا أعرف..
قاطعه بها ليثير بداخله الفضول للمعرفة:
- تعرف مين هنا في البلد يا آدم؟
- خالتو نادين اخت ماما، ما هي الوحيدة اللي كانت بتتكلم معايا فيديو، انا عايز اتصل بيها واكلمها.
❈-❈-❈
أثناء العمل معاً، كانت تدون ما تمليه عليها نجوان التي اندمجت في مدة بسيطة في الدور الخيري حتى أصبحت تدمنه، ما كانت تتوقع ابدا ان تعشقه بهذه الصورة، ولكن الاقدار دائمًا ما تدهشنا بتدبير الخالق ، الذي يضع كل إنسان فيما خلق له.
- وبكدة يبقى خلصنا بند المنازل اللي محتاجة معونة سريعة لبرد الشتا، وندخل بقى على بند السيدات المطلقات والارامل.
- لازم يعني؟
تذمرت بها بهجة في رد فعل عفوي، جعل الاخرى تنتبه اليها لتترك من يدها الملف الذي كانت على وشك البدء فيه، فتمعنت النظر بملامحها التي انكمشت بخجل تبدي اعتذارها:
- معلش انا اسفة كملي
عارضتها نجوان برقتها المعهودة، تخلع العوينات الطبية عنها:
- لا خلاص بقى انا نفسي تعبت، تقدري انتي تروحي يا بهجة، وانا اخلص بس جلستي مع مدام ايفون واروح انا كمان .
بتردد ملحوظ حاولت بهجة اثناءها:
- مفيش داعي، انا هخلص معاكي وبعدين اروح .
طالعتها بنظرة كاشفة جعلتها تطرق برأسها عن مواجهتها، لتلطف معها بعد ذلك:
- مفيش داعي تيجي على نفسك وانتي معايا، الدنيا مطارتش اصلا، روحي ارتاحي ونكمل بعدها براحتنا، ياللا قومي.
زجرتها هذه المرة بتصنع، لترفع عنها الحرج، فنهضت تلملم اشيائها مرددة لها بطرافة اختلطت بامتنانها:
- خلاص بقى اقوم وانفذ الأمر، انتي اللي امرتي، اعملك ايه؟
- لا يا ستي متعمليش حاجة نفذي الأمر
تمتمت بها نجوان تجاريها المزاح، قبل ان تستأذنها بحق هذه المرة وتذهب من امامها، وما ان اختفت من امامها حتى اجفلها اتصال نبوية، لتجيبها على الفور:
- الووو، في حاجة يا نبوية......... مين؟ رياض رجع من السفر وسأل عني كمان؟ وانتي قولتيلو ايه؟
❈-❈-❈
حينما خرجت في طريقها للذهاب، استوقفها مجموعة من الفتيات من أعضاء الجمعية في الفناء الخارجي للقصر للأستفسار والحديث معها في بعض الاشياء المكلفين بها، وبالطبع لم تقوى على التنصل من مسؤوليتها معهم، فاندمجت تشرح لهم على عجالة.
حتى غفلت عمن قدم بهيئته المهيبة حتى سرق اهتمام الفتيات بالنظر اليه وإبداء الإعجاب فيما بينهن، حتى لفت انتباهاها اخيرًا لتجفل وتتوسع عينيها بصدمة ، جعلتها تشك في بصرها، معقول! رياض.
- رياض مين؟ انت تعرفي الباشا الحليوة دا يا بهجة؟
لم تجيب الفتاة، يل اكتفت تحدجها بنظرة نارية، ثم تتركها وتلحق بهذا الشبح الذي ظهر فجأة، وهي التي كانت تظنه في بلاد الأناضول الآن.
واتجهت مباشرة نحوه بخطوات مسرعة، حتى دلفت خلفه داخل ردهة القصر، فتصدرت امامه على حين غرة تمنع مروره وتتأكد من هويته، فتجفله هو بهيئتها، بعدما مر عليها منذ لحظات حينما كانت تعطيه ظهرها مع مجموعة من الفتيات ولم يعرفها.
- بهجة!
خرج اسمها من بين شفتيه بملامح جمعت ما بين الدهشة والتساؤول، وكأنه لا يصدق رؤيتها من الاساس وبهذه الصورة وهنا، فيأتيه التأكيد منها، وهي تردد له:
- ايوة يا بهجة باشا، مش مصدق طبعا ظهوري المفاجيء في وشك كدة من غير سابق انذار.
خرج صوته بتشتت:
- مش حكاية مش مصدق؟ بس...
قاطعته بلوم:
- بس ايه؟ بس ايه يا رياض؟ يعني إنت هنا في البلد؟ ورجعت من السفر من غير ما تبلغني وانا اللي مشغولة عليك من امبارح وعمالة اتصل يجي مية مرة عايزة اطمن ، وانت اللي قدرك ربنا عليه هي رسالة بالعافية بعتها!
تصيح به بعتاب اشبه بتوجيه الاتهام وهو مازال على وضعه متجمدًا تطوف عيناه عليها بذهول تام، لا يستوعب حتى الآن المفاجأة بوجودها امامه هنا داخل قصر اجداده، وبتلك الهيئة الجديدة كليًا، اللعنة، لقد مر عليها في طريقه إلى هنا ولم يعرفها.
- رياض انا بكلمك، ما بترودش ليه؟
بسؤالها الاخير نفض عن رأسه الاندهاش قليلًا ليبادلها الرد بسؤال هو الاخر:
- اقول ايه بالظبط؟ فهميني الاول انت اللي ايه جابك هنا يا بهجة؟ ومن امتى التغير الشامل ده؟
أشار بسبابته عليها كليًا ، لتنتصب بثقة، قائلة له:
- مستغرب اوي شكلي الجديد؟ وبتسأل عن وجودي في قصر العائلة المعظمة، طب انا هريحك بقى واقولك اني بقيت موظفة هنا في الجمعية، مساعد لنائب مجلس إدارة.
- نائب لخالتو بهيرة ازاي يعني؟
- من غير ما تتخض اوي كدة، انا نائب لنجوان هانم ، اللي جاي تسأل عليها هنا، وناسي ان في واحدة قاتلها الخوف عليك من امبارح
- بهجة.
تمتم اسمها بلوعة الاشتياق التي تقتله الآن برؤيتها، بعد تقصيره في التواصل معها منذ نهار الامس، نظرا لانشغاله التام في أمر ناريمان وجنازتها ودفنها والعودة إلى البلد يشقيقه، بماذا يبرر؟ وكل الحروف قد فقدت معانيها امام سطوة خضراوتيها التي تاه في حقولها، حتى نسي الغرض الاساسي من مجيئه الى هنا.
تاني يا رياض مش هترد عليا، واضح ان المفاجأة برؤيتي مهباش سارة لحضرتك
- اللي انتي بتقوليه دا يا بهجة؟
زفر يشيح ابصاره عنها بضيق ملحوظ، فحضورها في هذا الوقت لم يأتي في باله على الإطلاق، عقله الذي يستحضر الحديث ومفاتحة والدته في الأمر المصيري بظهور الشقيق المختفي، لا يجد مساحة لشيء آخر حتى لو كانت هي، وهي أقرب اليه من نفسه..... تلومه ولها الحق في ذلك... ولكن ليس الآن.
- بقول اللي شايفاه يا رياض، دا انت حتى مش راضي تبص في وشي؟ هو في ايه بالظبط؟
عاد اليها يمسح بكفه على وجهه، وخلافًا لكل ما توقعته، تحدث متجاهلًا ثورتها، بكلمات خرجت من القلب وبدون تفكير:
- ما هو انا فعلا مش عايز ابص في وشك، لأني عايز ارمي نفسي في احضنك يا بهجة من غير مقدمات، تقدري تعطفي عليا بالمنحة دي وتتجاهلي كل الأفكار والشكوك في دماغك، لأن ملهاش اي اساس
اربكها بحق، يالها من حمقاء، لقد تأثر جزء داخلها بكلماته حتى أوشكت على التسليم لأشواقها، واحتضانه بالفعل، لولا يقظة عقلها ورفضها الاسلوب الملتوي منه، في التسفيه بغضبها منه:
- حلو اوي الاسلوب ده، ما هو بيجيب نتيجة صحيح مع واحدة غبيه زيي، طب حتى قدر احساسي في اللحظة دي وانا كل تفكيري بيدور على انك بتلعب بيا. وبتستغل سذاجتي.
ردد بعدم استيعاب لجملتها:
- انا يستغل سذاجتك يا بهجة؟
همت ان تلفظ باقي هجومها، ولكن النداء بأسمه جعلها تلتف نحو والدته التي أتت هي الاخرى وكأنها على علم بحضوره ولم تخبرها:
- رياض يا حبببي حمد الله ع السلامة
واقتربت تحتضنه مردفة:
- نبوية قالتلي انك روحت البيت وسألت عني؟ كنت عايزني في ايه بقى؟
توقف بنظرات مترددة ينقل بأبصاره ما بينها وبين بهجة ليحسم اخيرا:
- ممكن نقعد انا وانتي لوحدنا عشر دقايق .
....يتبع
الاربعون من هنا