رواية بقايا عطر عتيق الفصل العشرين 20 بقلم مريم نصار
الفصل العشرون. بقايا عطرُ عتيق
في تلك الليلة، عمّ الصمت أنحاء البيت، وكأن شيئًا جللًا يترقب الحدوث. فجأة، اخترق الصمت صوت خافت أشبه بالهمس، صوت سميرة لم تصدق عينيها وهي تقترب بخطوات مرتعشة. وقفت أمامه، أمام الغائب الذي طال انتظاره، وبدأت تتحسس وجهه وكأنها تحاول أن تثبت لنفسها أنه ليس حلمًا. كانت أصابعها ترتعش وهي تلمس ملامحه، ثم ارتفعت ببطء لتلامس صدره، بينما همست باسمه مرارًا، وكأنها تخشى أن يختفي في اللحظة التالية.
كان صبري أشدهم توترًا، شعر بنبض قلبه يتسارع وكأنه يحاول الهروب من صدره. وقف بين الحاضرين وهو يهز رأسه بعدم تصديق، يشعر أن الأرض تهتز من تحته. حاول أن يبتلع ريقه، لكنه وجد حلقه قد جف تمامًا، وابتسامة مصطنعة تتسلل إلى وجهه وهو يراقب الموقف بعينين مليئتين بالقلق.
أما الأخوان حجازي وحامد، فاندفعا نحو عبد الحميد، واحتضناه بحب غامر، تعلو وجهيهما ابتسامة عريضة تعكس فرحتهما التي لا توصف. لكن داخل تلك الغرفة، كانت زاهية، قد سمعت الاسم ذاته الذي يحمل ذكريات موجعة. توسعت عيناها، وعاد شريط الماضي أمامها فجأة، وقلبها بدأ يدق بسرعة غير معهودة. حاولت أن تتجاهل الأمر، لكنها لم تستطع منع نفسها من الاستغراق في ذكرياتها.
في تلك اللحظة، عبد اللطيف راقدًا على سريره، يحاول استيعاب ما يحدث. بالكاد تمكن من رفع رأسه ليرى، لكن أخاه الحج عبد الرحيم تدخل على الفور، واضعًا يده على كتفه بلطف وقال:
ـ أهدى أنت ياحج انت عيان، اني هطلع أشوف في إيه برة واردلك خبر.
وقف عبد الحميد وجهًا لوجه أمام حسين، نظرة طويلة مليئة بالعتاب والشوق تملأ عينيه. قال بصوت مفعم بالندم والاشتياق:
ـ إزّيك يا حسين؟ إزّيك يا واد عمي؟
تنهد حسين بعمق، واغرورقت عيناه، قبل أن يفتح ذراعيه ليحتضن عبد الحميد قائلاً:
ـ ياه يا عبد الحميد. ياه على الدنيا! كنت فين يا واد عمي كل السنين اللي فاتت دي؟ لسه فاكرني ياعبد الحميد؟
اجابة بنبرة تحمل الألم:
ـ ولا يوم نسيتك يا أعز رفيق ليا، كل يوم وكل دقيقه بتعدي عليا؟ بملاها بذكرياتنا الحلوه زمان.
ربت حسين على كتفه بقوه وفرحه:
ـ نورت دارك ياعبد الحميد.
ثم انتقل عبد الحميد نحو صبري، ابتسم له ابتسامة تحمل شوقًا صادقًا، وقال:
ـ كيفك، إزّيك يا صبري؟ اتوحشتني قوي ياخويا.
ارتبك صبري، بلع ريقه بصعوبة، وحاول أن يبدو طبيعيًا وهو يرد بابتسامة متكلفة:
ـ عبد الحميد؟ أخويا؟ فينك يا راجل. انت اللي اتوحشتني قوي ياخويا. أنا مش مصدق نفسي! أخيرًا رجعت بعد كل السنين دي؟ حبيبي ياخويا.
احتضن عبد الحميد أخاه، لكنه لاحظ ارتباك صبري، وشعر بشيء مريب. رغم ذلك، كانت اللحظة مشحونة للغاية، فلم يرغب في إثارة أي جدال.
ثم دخل عبد الحميد إلى الغرفة، وما إن رأى والده راقدًا على السرير ارتبك قلبه حتى جثا على ركبتيه عند قدميه. احتضن يديه وقبّلهما، ثم انفجر بالبكاء قائلاً:
ـ ابويا! مالك ياحج عبد اللطيف؟ الف سلامة عليك يابا.
رفع عبد اللطيف عينيه بصعوبة نحو ابنه، وهو بالكاد يصدق ما يراه. بصوت مرتجف، قال:
ـ عبد الحميد ابني؟ انت رجعت ولا اني بحلم؟ يعني إنت كده حقيقي واقف قدامي وعينيا شيفاك؟
أجهشا سميرة وعبد الحميد بالبكاء، وقبّل يد والده مرة أخرى وهو يرد بصوت مختنق:
ـ رجعتلك يابا، اني قدامك وتحت رجليك، بس يرضى عليك سامحني. وقوم لينا بالسلامة.
وسط هذا زاهية كانت تقف هناك، تنظر إلى ابنها بنظرات تحمل خليطًا من الحزن والغضب، وكأن الماضي يقف حاجزًا بينهما.كانت الجلسة ثقيلة كأنها تحمل فوقها صمت السنوات التي مضت، وكأن كل نفس يُسحب من صدورهم محملاً بالأسئلة والألم. عبد الرحيم، الجد الحكيم، حاول بلمسته المألوفة أن يُعيد بعض الاتزان للمكان، فقال بهدوء:
ـ خلاص يا حج عبد اللطيف، انت تعبان، وما لوش لزوم العتاب ولا السؤال. المهم دلوقت ابنك رجعلك، وبقى في حضنك، هنعوز إيه تاني يعني؟
عبد الحميد، الذي كان يحمل على كتفيه حمل الماضي الثقيل، تقدم نحو عمه الأكبر بحرج، وانحنى ليقبل يده، ثم احتضنه وهو يقول بصوت مختنق:
ـ حقك عليا يا عمي، انا عارف إني كـ.ـسرت بخاطركم كلكم. بس والله غصب عني، سامحوني.
عبد الرحيم، رغم حزنه العميق الذي بدا واضحًا في عينيه، وضع يده على كتف عبد الحميد بحنان وقال بحزم:
ـ قفّل على السيرة دي يا عبد الحميد يا ولدي. أبوك عيان، مش وقته. و روح، حبّ على يد أمك وراضيها، خليها ترضى عليك علشان ربنا يرضى عنك.
وقف عبد الحميد للحظات وكأنه يجمع شتات شجاعته، ثم اتجه بخطوات ثقيلة نحو زاهية، التي كانت تقف متصلبة كأنها تحمي قلبها من ألم اللحظة. وقف أمامها وقال بصوت مليء بالحنين والندم:
ـ يمّه، كيفك؟ لو تعرفي أتوحشيني قد إيه! تقولي عبد الحميد كداب. بس والله الدنيا ما كانتش دنيا من غيرك.
لكن زاهية، التي كانت سنوات الفقد قد جمدت مشاعرها، أدارت وجهها بعيدًا عنه. لم يستسلم، أمسك بيديها بحنان، وقبلهما والدموع تسيل على وجنتيه:
ـ عارف إنك زعلانه مني ويمكن مقهورة كمان، بس عشمي في قلبك الطيب كبير. وحياة حبيبك النبي تسامحيني. أنا ما ليش غيرك في الدنيا دي ورضاكي عليا أهم شيء! أنا ابنك عبد الحميد، يمّه.
سحبت زاهية يديها بعنف، وقالت بصوت مفعم بالأسى:
ـ عبد الحميد ابني؟ما.ت! ما.ت من زمان، من يوم ما فرقنا وراح ولا جاش! ولا سأل علينا في يوم، ولا عرفنا كيفك عايش ولا كنت مـ.ـيت!
كان الجو على وشك الانفجار وسينطق عبد الحميد، لكن صبري، الذي شعر بهول اللحظة، تدخل سريعًا وقال محاولًا تهدئة الأمور:
ـ مش وقته الكلام ده يا جماعة. في الآخر عبد الحميد رجع يمّه، وحبّ على يدك. واستسمحك. واديكي وبشوفة عينك أبويا الحاج تعبان، ورجوع أخويا في وقت زي ده يمكن يخليه يفوق. عديها وصلي على النبي وهدي بالك.
تنهدت زاهية وقالت بصوت متحشرج:
ـ عليه الصلاة والسلام.
ثم نظرت إلى عبد الحميد وقالت بلهجة مليئة بالخذلان:
ـ على قولك يا صبري، أبوك عيان، وإني اللي يهمني دلوقت صحته. جوزي الحج عبد اللطيف كبر ومرض وما لقاش كبيره يسنده.
رغم الكلمات الثقيلة، استجمع عبد الحميد ما بقي له من شجاعة، بينما تدخلت الجدة نعيمة لتخفيف التوتر، وقالت بحنان:
ـ بكفايكم لوم وعتاب بقى، ونحمد الله أنه حي يرزق،حمد لله على سلامتك ياعبد الحميد يا ولدي. الحمد لله إنك رجعت بخير. نورت الكفر كله ونورت البلد كلها. نحمد الله إنك جيت وشفت أبوك. واني حاسة إن تعبه هيروق بعد ما شافك. اقعد يا ولدي جار أبوك واتحدت شوية وياه. وكله هيتصلح، بس قول يا رب.
انحنى عبد الحميد أمامها، وقبّل يديها بحب واحترام وقال:
ـ الله يسلمك يا مرات عمي. وحشني كلامك الحلو والمترتب. وحشتني الدار دي، وكل ركن فيها، وكل حد فيكم. ادعيلي يامرات عمي ربنا يقدرني وأقدر أرجع المية لمجاريها من تاني.
رغم الجو المشحون، كان هناك بصيص أمل بدأ يتسلل إلى القلوب. أما زاهية، فكانت نظراتها لا تزال تحمل مزيجًا من الألم والحب المكبوت. وصبري كان يراقب بحذر، محاولًا إخفاء قلقه من انكشاف بعض الأمور. في حين كانت سميرة تحتضن ابنها صالح، بعد أن سرد لها ما حدث، وقد ملأها الفرح بعودة الأجواء العائلية التي كانت غائبة لسنوات.
كانت الشمس قد بدأت تتسلل بخيوطها الذهبية بين أشجار النخيل، معلنة عن صباح ريفي جديد. أمينة كانت تمشي بخطوات ثابتة، تحمل على رأسها دلواً من الماء، يلمع تحت ضوء الصباح. بمجرد أن وصلت إلى فناء الدار، وقع نظرها على عبد الرحيم، ابن عمها، الذي كان يقف بجانب القناية يشحذ فأسه. نادت عليه بصوت مفعم بالتلقائية:
ـ عبد الرحيم، تعالى حططني المية.
نظر إليها عبد الرحيم بنظرة عابرة قبل أن يعود إلى ما كان يفعله، ورد بنبرة جافة غير معهودة:
ـ انا مش فاضي. شوفي حد غيري يحططك.
توقفت أمينة في مكانها، وقد ارتسمت على وجهها ملامح تعجب واضح. قالت مترددة:
ـ يوه مالك بتزعق ليه؟ وبعدين هي دي أول مرة تحططني؟ دا إنت كنت أول ما تشوفني شايلة حاجة تقوم على حيلك وتحططني وتشيل بدالي كمان.
رفع عبد الرحيم عينيه نحوها، وبدت عليه علامات الانزعاج، وقال متأففًا:
ـ وياريته كان طمر! بقولك إيه، ابعدي عن دماغي.انا مش فاضي للدلع بتاعك ده.
ثم تراجع قليلاً وكأن شيئًا خطر بباله، وأضاف بحدة:
ـ ولا أقولك، خلي صالح يحططك. سلام!
تركها وذهب بخطوات سريعة، تاركًا أمينة واقفة مكانها، فاغرة فاهها، تحاول استيعاب هذا التغير المفاجئ.
من بعيد، كانت وفاء قد شاهدت المشهد كاملاً. اقتربت منها، تحمل نظرة مزيج من التعاطف والفضول، وساعدتها على رفع الدلو عن رأسها. سألت أمينة بصوت حائر:
ـ اني مش عارفة عبد الرحيم ابن عمي قلب وشه ليه ع الصبح كده؟
ابتسمت وفاء برفق وقالت، محاولة تخفيف وقع الموقف:
ـ ما تاخديش في بالك يا أمينة. تلاقيه مضايق عشان خد الإجازة وهيرجع لشغل الأرض. روحي أملي الزير مية عشان ترطب على قلوبنا في الحر ده. وأنا هروح أكمل الفطور.
تنهدت أمينة، وكأنها اقتنعت بهذا التفسير، لكنها قبل أن تهم بالمغادرة، التفتت إلى وفاء وسألتها بصوت يحمل لمحة من الترقب:
ـ امي قالت إن صالح جه وبات في دار جده عشيه؟ وتلاقيه دلوقتي راح يروي الأرض مع الرجالة؟
ابتسمت وفاء بخفة وقالت:
ـ لا، الدكتور هناك لسه في دار جده وهيفطر معاهم. بيقولوا خاله عبد الحميد لمن رجع قاله خليك معانا ياصالح وكمان مرت عمك سميره باتت هناك، والفرحه مش سايعاها، الحمد لله أنه طلع عايش ورجعلهم بالسلامه.
هزت أمينة رأسها، وذهبت بخطوات متباطئة، لكنها لم تستطع كبح أفكارها. ظلّت تفكر في صالح، وملامحه التي لم تفارق خيالها منذ آخر مرة رأته فيها، وشيء ما في قلبها يزداد تعلقًا به، رغم محاولاتها الدائمة لإخفاء ذلك.
كان عبد الحميد يقف في الحوش الخلفي، حيث الأجواء الريفية تملأ المكان برائحة الطين المبلل ونسمات الهواء الدافئة. بعدما توضأ لصلاة الجمعة وجفف وجهه بالمنشفة المعلقة على الحائط الطيني، سمع صوت أمه تناديه من خلفه:
ـ عبد الحميد.
توقف في مكانه، التفت إليها ببطء، مدركًا أن هذا النداء يحمل معه مواجهات ثقيلة كان ينتظرها، أو ربما يخشاها.
ـ رجعت ليه بعد كل السنين اللي فاتت؟ واشمعنى دلوقتي؟
سألته بحدة، وكأنها تفتح معه أبواب الماضي الذي حاول إغلاقه لسنوات.
رد بتردد، وهو يحاول أن يبدو هادئًا:
ـ رجعت علشانكم، يمة، رجعت لأني مبقتش قادر على الهجر كل السنين دي.
اقتربت منه بخطوات ثابتة، ونظراتها تخترق عينيه. ثم استرسل متسائلاً:
ـ أنتي زعلانة إني جيت، يما؟
ابتسمت زاهية ابتسامة باردة تحمل سخرية الألم وقالت:
ـ ويفرق معاك زعلي؟ عايزني أفرح بجيتك إزاي، وإنت غد.رت بينا ورحت ولا جيتش؟ سنين كتير قوي فاتت من غير ما تطل ولا تسأل. وعاوز مني أفرح؟ كيف الحديت ده؟
شعر عبد الحميد بأن الجرح أعمق مما توقع، لكنه حاول أن يدافع عن نفسه، فقال:
ـ بس إني جيت، يما. جيتلك لحد باب الدار وفي أيدي ليلى، وانتي ردتيني. وقولتي إنك مش عاوزاني أهوب ناحية الكفر تاني، وسمعت كلامك. علشان كده روحت وما رجعتش.
عبست وجهها وكأن الكلمات قد فجرت بداخلها بركان غضب:
ـ جَنيت في عقلك يا عبد الحميد؟ إيه الحديت الماسخ ده؟ إني رديتك عن الدار إزاي؟ وإني ما شوفتكش من آخر مرة يوم مو.ت ستك كريمة!
صُدم عبد الحميد من ردها، وربط بين كلماتها وبين ما توقعه صالح. أدرك أن هناك سرًا دفينًا يجب أن يظهر للنور. حدق بها مطولًا ثم قال ببطء:
ـ يما، صبري اللي قالي أكده. قالي إنك مش عاوزاني أرجع هنا تاني غير لما أبعد عن ليلى. ولما اتجوزتها صبري قال إنك أمرتي بأني لازم أجيب الواد، وإلا ماليش مكان بينكم.
اتسعت عينا زاهية بذهول، وشعرت كأن الزمن قد توقف للحظة، ثم قالت بصوت يملؤه الدهشة والغضب:
ـ إيه الكلام ده؟ محصلش أي حاجه من دي! لا صبري جالي ولا قالي أي كلمة. ولا نعرف إنت اتجوزت ولا حتى خلفت!
ابتلع عبد الحميد ريقه وهو يشعر بأن قلبه ينقبض من صدمة الحقيقة التي بدأت تتكشف أمامه.
ـ وحياة الشدة اللي إحنا فيها دلوقتي، يما، ده اللي حصل. صبري قالي إنك مش عاوزاني، وإني ماليش مكان وسطكم إلا لما أطلقها أو أجيبلك الواد.
سكن المكان للحظة، لكن داخل زاهية كان يغلي من الغضب تجاه صبري وكل من تسبب في هذه القطيعة. نظرت إلى عبد الحميد بحدة وقالت، محاوِلة أن تسيطر على مشاعرها:
ـ اممم. وإنت عندك كام عيل دلوقتي؟
رد بتوجس وهو يحاول قراءة ملامحها:
ـ "عندي. عندي تلاتة، يما.
اتسعت عيناها قليلاً، ثم رسمت ابتسامة باهتة على وجهها:
ـ كلهم صبيان؟ ولا اتنين وبت؟
ابتسم عبد الحميد بفخر وقال:
ـ تلات بنات، يا أمي. ناديه ونوال وكريمة. وهما نور عينيا وروحي اللي عايش بيها في الدنيا دي.
نظرت إليه زاهية، لكن ملامحها لم تفصح عن شيء. هزت رأسها بهدوء، ثم استدارت وهمّت بالخروج من الحوش، تاركة عبد الحميد خلفها، واقفًا في مكانه، وكأن الأرض شلت قدميه.
كان يعلم أن أمه لن تتقبل الأمر بهذه السهولة، لكنه أدرك أيضًا أن الوقت وحده قادر على ترميم الشروخ التي أحدثتها السنين الماضية.
اجتمع بعض الرجال في المندرة بعد صلاة الجمعة والغداء، يجلسون في دائرة واسعة، تتوسطها طاولة صغيرة وضعوا عليها أباريق الشاي وأكواب زجاجية. كان الجو مشحونًا برائحة الحطب والدخان، وصوت المروحة الخشبية يملأ الفراغ.
جلس عبد الحميد بينهم، يتوسط الحديث، وعيناه تتنقل بين وجوههم وكأنه يبحث عن ترحيب كان قد فقده منذ زمن. سأله حجازي بفضول:
ـ قولنّا يابا الحج عبد الحميد، عندك ولاد قد ايه دلوقتي؟
ابتسم عبد الحميد، وأجاب بفخر:
ـ عندي تلات بنات، ناديه ونوال وكريمه. زوجتي ليلى الله يرحمها جابتلي اجمل تلات وردات غاليين على قلبي. وأجمل حاجه في الدنيا كلها. لو شفت كريمه ياحجازي، هى اخر العنقود وهتفطسك من الضحك، بنت غلاباويه ولمضه بشكل كبير. اما ناديه الكبيره تشبه عمتها سميره بالظبط، عاقله وراسيه وحكيمه وساعدتني كتير في تربية أخواتها. اما نوال دي بقى..!
لكن قبل أن يكمل وصف بناته، ارتفعت عينا أمه زاهية نحوه، وهي تجلس في طرف المجلس صامتة، لتقول بلهجة باردة مشوبة بالسخرية:
ـ طاير بيهم كيف الطير الحُر، مع إن يعني خِلفتك كلها طلعت بنات. اومال لو كانوا رجالة مالوّا هدومهم كنت عملت ايه؟
كان لكلماتها وقع ثقيل على قلبه، لكنه أخفى غضبه وابتسم بحب وقال:
ـ فعلاً يمة، انا طاير بيهم. عندي تلات بنات زي القمر. هدية من ربنا ليا، كانوا نعم الونس في وحدتي،ناديه الكبيرة، دي أحن واحدة في الدنيا،ام وصديقه وحبيبة،ونوال عاقلة ومابتغلطش وتعرف الأصول قلبها كبير، وكريمه دي نسمتي الحلوه في الدنيا. انا فخور إني خلفت بنات، مبسوط إني أبو البنات، دي حاجه مبهجه وفي الأول والأخير دي إرادة ربنا يا أمي. وعمري ما اعترض عن إرادة ربنا أبدا.
لكن زاهية لم تتوقف، بل عوجت فمها وقالت بصوت خافت يكفي لأن يسمعه:
ـ خِلفة الندامة. وتلاقي مرتك قبل ما تتوكل عملتلك سحر. عشان تربطك بيهم.
هنا، ارتفع الد.م في رأس عبد الحميد، ولم يعد قادرًا على كتم غضبه. رفع صوته قليلاً وقال:
ـ ليلى مراتي؟ كانت أجمل وأنضف وأطهر ست في الوجود. عمرها ما قالت كلمة وحشه في حقكم، ودائماً كانت تضغط عليا علشان أرجع البلد واطلب رضاكم. كل ما أقولها إنكم زعلانين مني، تقولي: خليك مع أهلك يا عبد الحميد، لا الدنيا ولا الولاد يعوضوا الأهل والعزوة. ومش هسمح لأي حد، مهما كانت درجة محبته عندي، أنه يقلل من زوجتي الله يرحمها، ولا يقول كلمة متعجبنيش في حقها.
ساد صمت مفاجئ، لكن عبد الحميد لم يتوقف، وكأنه استفاق على الحقيقة التي ظلت مكتومة داخله لسنوات، وقال بصوت حاسم:
ـ وانتي يا أمي بتلوميني على إيه؟ على غلطة إبنك صبري؟ ده بدل ما تحاسبيه هو بتجـ.ـلدي فيا أنا! أنا قولتلك، إني جيت قبل كده على الدار وفي إيدي ليلى، لكن صبري رجعني تاني. قالي أمك وابوك رفضينك وإني ماليش مكان وسطكم طول ما أنا متجوزها.
تحولت الأنظار فجأة إلى صبري، الذي جلس في زاوية المندرة يحاول الاختباء خلف ظلال الكلمات، لكن فضيحة أخيه بدأت تنكشف. سرد عبد الحميد كل شيء مرة أخرى والكل بدا مصدومًا، حتى أن حسين، لم يتمالك نفسه. رفع عكازه وضرب به الأرض بقوة، وصاح بغضب قائلاً:
ـ اللي انت عملته في أخوك ده ما يعملوش ألد أعدائنا فينا، يا صبري! الكل كان فاكر إن عبد الحميد هرب وجابلنا العا.ر، وفي الحقيقة أنت السبب. أنت العا.ر بذات نفسه يابن عمي. استفدت إيه؟ تقدر تقولي؟
ابتلع صبري ريقه ولم يستطع النطق بكلمة، بينما جلس عبد الحميد منهكًا على الكرسي، يخلع نظارته ويمسح وجهه بحزن ظاهر عليه. تابع حسين حديثه بنبرة تفيض بالعتاب والغضب:
ـ كل مصيـ.ـبة تحصل لينا في الكفر تبقى انت وراها يا صبري. عرفنا إنك راجل فلاتي وبايظ، وعملنا اللي مايُعمل عشان تتغير بس أنت جتتك نحست مبتحسش، قولنا خلاص هو حر! واللي بيشيل قربة مخرومة بتخر على راسه لحد ما يغر.ق، بس توصل إنك تفكر تبعد أخوك الكبير، اللي من لحمك ود.مك، بعيد عن ناسه وأهله وعزوته؟ متبقاش بايظ لأ، تبقى شيطا.ن يا صبري، شيطا.ن عاوز يفرق العيلة عن بعضيها.
بس لأ، نأبك هيطلع على شونة يا بن العم. ومهما كانت الحقيقة متخبية، لازم ييجي يوم والمستخبي يبان. وآها يا صبري عبد الحميد رجع على داره بالأخير.
شحبت ملامح صبري، وارتبك محاولًا تبرير موقفه قائلاً:
ـ جرا إيه يا حسين؟ أنت نازل فيا تقطيم وسلخ كده ليه؟أنت صدقت حديته ولا إيه؟ هو أي حاجة تتقال تصدقوها؟ عبد الحميد بيقول حجج وخلاص عشان يرجع من غير ما حد يلوم عليه، واني مش زعلان منه. عادي، يجبها فيا، اني أتحمل، بس بلاش الموضوع يوسع منكم وتيجوا عليا وتجيبوها فيا بحق وحقيقي.
اتسعت عينا عبد الحميد من الصدمة، وقف بغضب وقال:
ـ يعني أنا كذاب يا صبري؟ يعني أنا هبعد عن أهلي أكتر من 20 سنة، ويوم ما أرجع أرجع بكدبة زي دي؟ أنا دلوقتي فهمت كل حاجة. فهمت إنك مش عايزني، وتلاقيك فعلاً ما قولتش لأي حد في الدار إني جيت. واتحايلت عليك أدخل البيت وعملت اللي عليا، وأنت اللي طردتني يومها. ليه يا صبري؟ ليه؟ ده أنا أخوك الكبير، ورغم كل ده عمري ما أذيتك.
كانت زاهية قلقة من تصاعد الأمور بين الأخوين، فتدخلت قائلة بلهجة مهدئة:
ـ خلاص يا عبد الحميد، وانت يا صبري، قفلوا على المواضيع دي. الموضوع خلص خلاص، وقفلنا عليه، ومش هيتفتح تاني.
شعر حسين أنها تدافع عن صبري حتى لو كان مخطئًا، فوقف بثبات وهيبة، قائلاً بحسم:
ـ الموضوع مخلصش يا مرات عمي. وصبري غلط إنه حرمنا من واد عمنا. وياريت بلاش ندافع عن الغلط، عشان الموضوع ده مش هيعدي بالساهل.
وقف عبد الحميد بخيبة أمل واضحة، وقال بنبرة محبطة:
ـ خلاص يا حسين، مبقاش ليه لزوم الكلام. أنا مش عايز حاجة من حد، ولا عايز أعمل مشاكل. أنا هطمن على أبويا الحج وأرجع على مصر تاني، لأن حياتي كلها هناك. والحمد لله أنها جت على قد كده.
نظر حسين إلى الجميع وقال بتحذير:
ـ بيتك هنا وأرضك هنا. تروح مصر إن شالله ميت سنة، بس اعرف إنك لما ترجع هتلاقي دارك مفتوحة على آخرها. واعمل حسابك إن بناتك لازم يجوا، ولازم يعرفوا أصلهم وجدرهم طلع منين. لازم يعرفوا إن ليهم عزوة وسند. واللي مش عاجبه كلامي؟ يقدر يفوت البلد ويهرب بحق وحقيق. ومش هعيد كلامي تاني. واللي حصل في المندرة بينا دلوقتي؟ محدش غيرنا يعرف بيه. ولو أبويا الحج عبد اللطيف عرف بحاجة زي كده ولا شم خبر بس؟ أقسم باللي رفع السما وخلق الأرض ما هيطلع عليه نهار، ويبقى في الكفر كله جرسة للطالح والصالح. فاهمين ولا لا؟
ساد الصمت المندرة، وكانت علامات الغضب واضحة على حسين، غضب لم يشعر به من قبل. نظراته الحادة كانت تلتهم صبري الذي تجنب المواجهة وأبقى عينيه مثبتتين على الأرض، وقد بدا عليه القلق أكثر من خوفه من العائلة.تخللت القلوب وأثارت العقول. الجميع جلس متوترًا، والهواء مشبع بعبق التوتر والخوف من العواقب.
عبد الحميد: جلس بوهن على المقعد القريب من النافذة، يضع رأسه بين كفيه، يشعر بمرارة الفقد والخذلان. كان قلبه ينبض بألم أكبر مما يستطيع احتماله، وكأن السنين التي قضاها بعيدًا عن بلدة قد عادت لتلقي بثقلها عليه في هذه اللحظة.
صبري: جلس على حافة المقعد بجوار الباب، يشيح بوجهه عن الجميع، وعيناه معلقتان بالأرض. كان يتجنب نظرات حسين التي كانت تخترق روحه كالر.صاص. شعر بأن الأرض تضيق عليه، وبأن كلماته لن تستطيع إنقاذه من ورطته.
زاهية: بدت في حالة من التوتر والارتباك، تلعب بأطراف طرحتها محاولةً إخفاء مشاعرها. كانت تفكر بسرعة في كيفية السيطرة على الوضع قبل أن يزداد الأمر سوءًا.
أما حجازي وحامد، فكانت نظراتهما مليئة بالدهشة والصدمة، لم يتوقعا أن يحدث هذا، أو أن صبري قد يكون بهذا القدر من الخيانة.
في داخله، كان حسين يشعر بالخوف من أن يصل الخبر إلى عمه عبد اللطيف، الذي قد لا تتحمل صحته صدمة مثل هذه. لذلك، كان يسابق الزمن في البحث عن حل سريع يحفظ به أسرار العائلة وينقذها من الفضيحة.
وقف في منتصف الغرفة كالجبل، يسيطر على الموقف بهيبته وحدته. نظر إلى الجميع مرة أخرى، وكأن كلماته الأخيرة كانت بمثابة قانون لا يمكن لأحد تجاوزه.
حسين، بحزم:
ـ عندي كلمتين هقولهم للكل قبل ما امشي. ومن بعدها كل واحد يروح يشوف شغله.و اللي نبهت عليه يتم، ولا كلمة زيادة ولا كلمة ناقصة. واللي هيعمل عكس كلامي؟ هيبقى ليه معايا حساب تاني.
ألقى نظرة طويلة على صبري قبل أن يكمل:
ـ يا صبري، أكتر حاجه بتشعلل النا.ر الجاز. واكتر حاجه تشعل الفتنه كتر الكلام وسواد القلب، واكتر حاجه تفرق بين الاخوات حب النفس والطمع. وده مش حلو يابن عمي، وغير كده أنت مش ناقص فضا.يح، وعمي مش ناقص يسمع عنك حاجة تاني. وخليني أقولك كلمة أخيرة: لو كان ليك عقل، هتعرف إن اللي عملته في أخوك الكبير ده مش بس غلطة عمرك، ده كسر للضهر.
ثم نظر إلى عبد الحميد وقال بنبرة أخف:
ـ يا عبد الحميد، حقك عليا اني، عدي اللي حصل لأجل أبوك الراجل الطيب. اني عارف إن قلبك كبير وبتحب تسامح على طول، خليك كيف ما اتعودت عليك يابن عمي، وأعرف إن مهما حصل، هنفضل د.م واحد وعيلة واحده، وبناتك دول مش بس بناتنا، دول شرفنا وقطعة من روحنا، وكل بيت في عيلة ابو قاسم مفتوح ليك و لبناتك في اي وقت إن كان. واللي فات ما.ت، يابن عمي. السموحه منك.
ألقى نظرة شاملة على الجميع قبل أن يغادر المندرة. كانت خطواته الثقيلة تحمل كل الغضب والقلق الذي حاول إخفاءه.
الجميع في صمت: بقي الجميع في أماكنهم، يعجزون عن كـ.ـسر الصمت الذي فرضه حسين، وكأن كلماته كانت آخر ما يمكن سماعه في هذا النقاش.
في أعماق حسين، كان قلقه الحقيقي يدور حول صحة عمه عبد اللطيف. كان يعلم أن أي خبر من هذا النوع قد يكون بمثابة الضربة القاضية لعمه الذي لطالما اعتبره عمود البيت. بدأ حسين يفكر في حلول سريعة لإنهاء الأزمة قبل أن يتسرب الخبر إلى خارج المندرة.
كان صالح جالسًا مع أمه سميرة في الجنينه، حيث النسيم العليل يتخلل أشجار الجوافة والنخل. كانت سميرة تنظر إليه بابتسامة خفيفة، لكن حديثها لم يكن متوقعًا لصالح.
قالت بصوت هادئ وهي تنظر إلى الأرض:
ـ يا صالح، كنت عاوزه أقولك حاجة مهمة، أبوك وأعمامك شافوا إن، يعني أ...
قاطعت كلماتها لحظة صمت، ثم أكملت بتردد:
ـ "طعاوزينك تتجوز أمينة بنت عمك.
تسمرت عينا صالح في وجه أمه، وهو لا يصدق ما سمعه. ارتفع صوته بغضب مكتوم:
ـ إنتي بتقولي إيه يا أمي؟ أمينة؟ بنت عمي؟ ده مش ممكن يحصل أبداً! وازاي يقرروا حاجه مهمه ومصيريه زي دي عني؟
نظرت سميرة حولها بقلق، ثم وضعت يدها على كتفه وقالت:
ـ وطي صوتك يا واد. اني مش فاهمه ربع كلامك المكلكع ده؛ وبعدين مالها أمينة؟ ماهي بت عمك، وزي الفل. البت متربية تحت جناحنا، وعارفينها كويس وزينة قوي. يبقى فين المشكلة؟
نظر إليها صالح بنظرة ملؤها الإصرار، وقال بصوت أكثر هدوءًا لكن بنبرة قاطعة:
ـ المشكلة إني حبيت يا أمي، قلبي مبقاش ملكي بقى ملك لحد تاني،وقررت خلاص. أني مش هرتبط بحد غير اللي اختارها قلبي.
شعرت سميرة بالخوف من كلماته، وقالت محاولة التخفيف:
ـ حب إيه بس يا صالح؟ الكلام ده مالوش مطرح هنا، أنت لسه صغير، وأبوك أدرى بمصلحتك.
اقترب منها صالح، وحدق في عينيها بثبات وقال بصوت منخفض لكنه حاسم:
ـ في موضوع مهم زي ده يبقى أنا اللي أدرى بمصلحتي، وأنا بحب نوال يا أمي، نوال بنت خالي، ووعدتها إنها هتكون ليا. وعمري ما هرجع في كلمتي، حتى لو عشت العمر كله احارب علشانها.
سادت لحظة من الصمت، وظهر القلق على وجه سميرة. كانت تعلم أن هذا الحديث لن يمر بسهولة، وأنه قد يشعل خلافات كبيرة في العائلة. حاولت تهدئة ابنها، لكنها أدركت أن الموقف أصعب مما توقعت.
بعد صلاة العشاء كانت نوال جالسة في غرفة المعيشة مع أختها نادية، تحكي لها بفرحة وهي تمسك الهاتف الأرضي بين يديها:
ـ نادية، نادية بابا اتصل دلوقتي وكلمتي وطمنّي عليه، قال إن كل حاجة تمام، وإنه هيقعد كام يوم كمان في البلد.
رفعت نادية رأسها من الكتاب الذي كانت تقرأه، وقالت بابتسامة مطمئنة:
ـ الحمد لله يا نوال. كنتِ شايلة همه قوي من امبارح، وقلبي مشغول عليه.
ثم قطبت نادية حاجبيها في استغراب وهي تسأل:
ـ بس إزاي بابا اتصل؟ وانتي بتقولي إن عندهم في البلد مفيش أي وسيلة اتصال!
ابتسمت نوال بخفة قبل أن تجيب:
ـ فعلاً كنت فاكرة إن مفيش اي وسيلة تواصل غير التليغراف، لكن بابا قال إنه كلمني من تليفون بيت العمدة هناك.
تبددت دهشة نادية بعدما استوعبت الإجابة، بينما جلست نوال في حيرة، وعلامات التفكير بادية على وجهها، وكأنها تبحث عن شيء لم تفصح عنه بعد.
ـ تعرفي يا نادية أنا كان قلبي مشغول قوي على بابا، وكنت خايفه قوي من أنه يرجع زعلان وعيلتة ترفض أنهم يقابلوه. لكن لما سمعت صوته ارتحت.و قال إن جدو وتيتة استقبلوه بكرم كبير وعمامي مبسوطين بيه جداً، وخصوصاً عمتو سميره. وإن كل هناك ماشية زي ما كان عايز واكتر.
اقتربت منها نادية، وجلست بجانبها وهي تقول:
ـ عارفة يا نوال، أنا اللي مفرحني أكتر حاجه إن بابا هيرجع ميفكرش في الماضي من تاني، بابا دايماً كان بيقعد أكتر الوقت باله مشغول بحاجات كتيره ودلوقتي فهمت وعرفت، واللي مطمني إن بابايا قوي وعارف يتصرف. والبلد دي مكانه، مهما بعد عنها لازم يرجع يلاقيها في انتظاره. وده اللي حصل، الحمد لله.
تنهدت نوال، ونظرت إلى صورة والدتها الموضوعة على الطاولة بجوار الأريكة. لمعت عيناها بالدموع لكنها ابتسمت:
ـ لو ماما كانت عايشة، كانت هتفرح إنه رجع يزور أهله. هي دايماً كانت تقولنا إن الجذور والأصل مهمين، وإننا لازم نحافظ على صلتنا بأهلنا مهما حصل. وكنت ببقى مستغربه تقصد إيه! ودلوقتي فهمت.
وضعت نادية يدها على كتف نوال وقالت بلطف:
ـ الله يرحمها، ماما دائماً كانت ونعم الزوجة والام، وأكيد هى مبسوطه دلوقتي.
رغم دموعها التي لم تجف تمامًا، ابتسمت نوال وهي تضم شقيقتها إلى صدرها، محاولة بث بعض الدفء والفرح في الأجواء، وكأنها تحاول دفعهما معًا بعيدًا عن أثقال الماضي. جلستا معًا، وبدأتا الحديث عن صالح وأحمد، خطيب نادية، تتبادلان الضحكات الخفيفة والهمسات. كان الوقت يمضي خفيفًا ومريحًا، ولفت الحنين بينهما خيوط من الأمل، لتتحول اللحظة إلى استراحة عابرة من الهموم.
في اليوم التالي كان النهار يسير بهدوء في بيت عبد اللطيف، الجميع منشغلون بأعمالهم اليومية، لكن الجو العام كان مشحونًا بمشاعر متضاربة.
عبد الحميد جالس بجوار والده في الغرفة الكبيرة، يضع الوسادة خلف ظهره ويطمئن على غطائه. كان يتحدث إليه بصوت مليء بالمودة، وكأنه يحاول أن يعوضه عن سنوات الغياب:
ـ عامل إيه دلوقت يا حاج؟ تحب اجبلك اي حاجه؟
ابتسم عبد اللطيف رغم ضعفه، وربت على يد ابنه:
ـ نحمد الله يا ولدي واني بخير طول ما إنت قاعد جنبي. والسنين اللي فاتت دي خلاص ما تهمش، رميت كل وجعها بعيد، المهم إنك رجعت دلوقتي، وبقيت قدام عيني.
عبد الحميد ابتسم بهدوء، لكنه شعر بثقل الكلمات، وكأنها خنجر يذكره بما فاته.
على الجانب الآخر، كانت سميرة واقفة عند باب الغرفة، تنظر إلى أخيها بعينين ممتلئتين بالشوق. لم تقترب كثيرًا، وكأنها تخشى أن تنكسر اللحظة، لكنها كانت تشبع نظرها منه، تحاول أن تستعيد في عينيها صورة الأخ الكبير الذي غاب طويلًا.
فاق عبد الحميد على صوت والده، الذي باغته بسؤال غير متوقع:
ـ أمك قالتلي عندك تلات بنات؟
شعر عبد الحميد بغصة في صدره وحزن عميق، لكنه فوجئ حين أكمل والده الحديث بنبرة مختلفة:
ـ تعرف يا عبد الحميد. أنت عندك تلات جسور قوية تقدر تتسند عليهم في أي وقت. اني عندي خواتك البنات أحسن ميت مرة من الصبيان. أها على يدك، من ساعة ما رقدت وسميرة واخواتها مفاتونيش لحظة. هملوا ديارهم وعيالهم وقاعدين تحت رجليا. صدق الشيخ عيسى عليه رحمة الله لما كان يجينا بيقول: "دول المؤنسات الغاليات يا حج عبد اللطيف، هتعرف قيمتهم بعدين". واديني عرفت.
توهج الأمل في قلب سميرة وعبد الحميد معًا، وبدت السعادة جلية في عينيهما. اقترب عبد الحميد وقبّل جبين والده بحب وامتنان، وهو يشعر بفرحة الانتصار الحقيقي، وفخر الأب الذي يدرك أخيرًا قيمة أبنائه، بناته قبل أبنائه.
أما في المطبخ، كانت زاهية تقلب شيئًا على النار، وجهها يعكس مزيجًا من الحيرة والغضب. الكلمات التي قالها عبد الحميد عن بناته كانت تدور في رأسها، وتحاول أن تهدئ نفسها:
ـ كلهم بنات. وصالح بيقول بنات محترمين ومتربيين. لا، دا كلام ما يدخلش عقلي دول تربية البندر، يعني لا حيا ولا خشا، وكان لازم يكون عنده ولد يشيل اسمه.
نفضت الفكرة من رأسها محاولة التخلص منها، لكن سرعان ما عادت لتسيطر عليها من جديد. استحضرت في ذهنها ما فعله صبري بأخيه، فتبدلت ملامحها بالضيق وتعكر صفوها. همست لنفسها بحدة:
ـ بقى كده يا صبري؟ تحرمني من شوفة ولدي البكري كل السنين دي؟ بس لمن كل واحد يرجع على داره، ورحمة أمي لاخلي أيامك شبه شعر راسك.
تشبعت كلماتها بالغضب الممزوج بالحسرة، كأنها تعد نفسها بمعركة قادمة لاسترداد ما فُقد.
في المندرة، كان صبري جالسًا مع حسين وبعض الرجال، لكنه لم يكن يشارك في الحديث. عيناه كانت تتابع عبد الحميد كلما مر أمامه، تحمل نظراته ضيقًا وضغينة واضحة. كان يشعر بالضغط يزداد عليه مع كل لحظة يقضيها عبد الحميد في الدار، وكأن وجوده يهدد مكانته التي اعتادها.
حين التقت أعينهما للحظة، كان العتاب في نظرات عبد الحميد واضحًا، وكأن عينيه تقول:
ـ ليه يا صبري؟ ليه ياخويا يابن امي وابويا؟
أما صبري، فرد عليه بنظرة ملؤها التحدي، وكأنه يقول:
ـ مش هترجع تاخد مكاني بسهولة كده ياعبد الحميد. داني مصدقتش إنك اتنسيت، تقوم تطلع قدامي كيف القط ابو سبع ترواح؟ ده لا يمكن أبدا.
مر اليومان بصعوبة على صبري وزاهية، بينما شعر الآخرون بخفة على قلوبهم، وكأن عبد الحميد جاء ليعيد بعضًا من الدفء الذي افتقدوه. عبد الحميد لم يفوت فرصة ليقترب من الجميع بود، وكان يسعى لتضميد جروح الماضي.
لكن داخل صبري وزاهية، كان الجرح ينزف بصمت، وكأنهما الوحيدان اللذان لم يستطيعا التأقلم مع عودة الابن الغائب.
في نهاية اليوم، جلس صالح في غرفته الصغيرة، يحتضن وسادته وعيناه مثبتتان على السقف. كان عقله يعج بالأفكار، وكأنها أمواج تتلاطم بلا توقف. تذكر نظرات أمينة التي ملأتها الأمل، لكنه لم يرَ فيها سوى وجه أخت صغيرة اعتاد أن يراها تلعب في الحوش مع بقية الأطفال.
همس لنفسه بحيرة:
ـ مش قادر أفكر. وقادر اتخيل، مش هينفع. أنا مش حاسس بحاجة غير إنها زي أختي. كل ما أغمض عيني بشوف نوال قدامي، هى حبي الوحيد. وانا وعدتها.أعمل إيه بس؟ لازم أحسم الموضوع مع بابا قبل ما يكلمني هو وتقع المصيبه فوق دماغي.
نهض فجأة، كأنما اتخذ قرارًا مصيريًا. لن ينتظر حتى يتحدث والده إليه أو يقع في فخ لا يستطيع الخروج منه. قرر أن يواجهه بنفسه ويصارحه بكل شيء.
توجه إلى الغرفه الكبيره، ووقف عند الباب يتردد للحظات. سمع صوت أبيه يتحدث مع جده في الداخل، فانتظر حتى ينتهي الحديث. بعد دقائق قليلة، خرج الجد عبد الرحيم ببطء، وألقى نظرة على صالح وقال بابتسامة مشجعة:
ـ عاوز حاجة يا واد؟ واقف هنا ليه لروحك؟
هز صالح رأسه بخجل:
ـ لا يا جدي، عاوز سلامتك، بس كنت عايز أتكلم مع أبويا شويه.
ربت الجد على كتفه قبل أن يبتعد، تاركًا الباب مواربًا خلفه. دخل صالح بخطوات مترددة، ليجد والده جالسا على الكنبة الخشبية العريضة في الغرفه، يحتسي كوبًا من الشاي الثقيل بعد يوم طويل في الأرض. بدا عليه التعب، لكنه كان مستمتعًا بهدوء اللحظة. دخل صالح بخطوات مترددة، يحمل نظرات مشوشة ويديه تتلاعبان بحافة جلبابه.
رفع حسين عينيه، فأشار لصالح بالجلوس بجانبه دون أن يتكلم. جلس صالح بهدوء، يحاول جمع شتات أفكاره.
قال حسين بصوته العميق:
ـ مالك يا صالح؟ شكلك مش على بعضك. باين عاوز تقول حاجة مهمه؟
ابتلع صالح ريقه وقال متردداً:
ـ بصراحه أنا.. أصل يعني أنا عاوز أتكلم مع حضرتك في موضوع مهم.
اعتدل حسين في جلسته، ورفع كوب الشاي إلى فمه قبل أن يضعه جانبًا:
ـ ربنا بيحبك اني كنت لسه هبعت وراك، اني كمان كنت عاوزك في حاجه مهمه، بس قول أنت الأول يا دكتور، إيه اللي شاغلك؟
نظر صالح ليديه المتشابكتين للحظة قبل أن يرفع عينيه ليواجه أباه:
ـ بابا، أنا فكرت كتير. قبل ما اجي وأقول لحضرتك ، انا كنت مأجل الموضوع لحد الاجازه وشايف إن الوقت جه علشان أقولك. إني، اني عايز اتجوز.
ضحك حسين بخفة، وقال بنبرة تحمل مزيجًا من الدعابة والاهتمام:
ـ "اللاه ده إيه الحظ الحلو ده؟ واني كمان كنت عاوزك في حاجة زي دي بالظبط. داني كلمت جدك كمان.
أدرك صالح أن الحديث قد ينحرف نحو مسار لا يريده، خاصة إذا تعلق الأمر بأمينة. فحاول السيطرة على الموقف، مبتسمًا ليبدد أي شكوك وقال:
ـ ربنا يخليك لينا يا بابا، ويطول في عمر جدي عبد الرحيم.وأنا واثق إن حضرتك أول ما تشوفها هتقول: أنت اخترت صح يا صالح. لأنها هتعجبك قوي ومش هتصدق هى مين!
تجهم وجه حسين قليلًا، وسأله بنبرة جادة مليئة بالاستغراب:
ـ اخترت صح؟ ومين بقى البت دي اللي هاشوفها واقولك عليها براوه ياصالح؟
تردد صالح للحظة، محاولًا ضبط نفسه رغم توتره الذي بدأ يظهر عليه. أخذ نفسًا عميقًا ورد بصوت بدا ثابتًا رغم اهتزازه الطفيف:
ـ نوال يا بابا. نوال بنت خالي عبد الحميد.
الحادي والعشرين من هنا