رواية جبر السلسبيل الفصل الثالث والعشرين 23 بقلم نسمة مالك
الفصل ال23..
جبر السلسبيل..
نسمة مالك..
.. بسم الله الرحمن الرحيم.. لا حول ولا قوة إلا بالله..
شخصية شرسة بأمكانها أرتكاب أفظع الجرائم دون لحظة تردد، و هذا ما حدث ل "خضرا" بعدما تمكنت منها الغيرة التي أشعلت النيران بقلبها حتى غلفته
القسوة،تلك النيران سيكون للجميع نصيب منها، ستحرق كل من يعترض طريقها، لن ترحم أحدًا حتى نفسها..
صدح آذان العشاء، و صدح معه رنين جرس باب المنزل الخارجي يعلن عن وصول الهدايا التي أوصى بها "عبد الجبار" خصيصًا لزوجته بإحدى دور الأزياء الشهيرة حتى تُناسب مقاساتها ، أتت قبل موعدها لينالوا رضا أهم عميل لديهم..
تقف "خضرا" بوجهه عابس بشدة، ممسكة هاتفها بيدها تعاود الإتصال بهاتف زوجها مرارًا و تكرارًا دون توقف، لا تكترث للهدايا على الإطلاق، كل ما يشغل بالها هي غريمتها، فقد تأكدت من مصادرها داخل المستشفى أن "سلسبيل" لم تصل إلى هناك ..
إذن أين ذهب بها ، و ماذا يفعل معاها الآن !!..
ستجن لا محالة كلما تتخيل أنهما بمفردهما و من الممكن أن تتطور العلاقة بينهما، تدور حول نفسها ذهابًا و أيابًا و هي تلطم خديها بكل قوتها حتى أدمتها، تشعر بألم يمزق قلبها يفوق قدرتها على التحمل، كل هذا أمام نظرات "بخيتة" التي تتابعها بابتسامة واسعة تظهر جميع أسنانها بهيئة مخيفة، و مستفزة للغاية..
" كل عمايلك دي مبقاش ليها عازة خلاص يا خضرا، سلسبيل بقت مَرات عبد الچبار المنياوي اللي هتچبلوا الواد عن قريب قوي قوي"..
غمغمت بها "بخيتة" وهي تستند على عكازها، و تنتصب واقفة سارت تجاهها بخطوات هادئة حتى توقفت أمامها مباشرةً، و نظرت لها بملامحها القاسية، و تابعت بضحكة ساخرة..
"كنتِ فاكرة حالك هتقدري تتحكمي في البنتة الصغيرة و تبعديها عن راچلها إياك!!!.. القلوب ملهاش حاكم يا أم البنتة، و سلسبيل عشجت عبد الچبار كيف ما هو عشجها، و مهتقدرش تمنع روحها عنِه أكتر من أكده"..
كانت "خضرا" تستمع لها بصمت، ملامحها جامدة، دموعها متحجرة بعينيها، تصطك على أسنانها بعنف كادت أن تهشمهم، هُيئ لها أن"سلسبيل " تقف أمامها و كم تتمني هذا الآن حتى تنقض عليها و تمزقها أربًا دون لحظة تردد..
تنهدت" بخيتة "براحة و قد وصلت لمبتغاها، و هي تري الغل، و الحقد ظاهر بوضوح على وجهه "خضرا" تجاه "سلسبيل"، فدمدمت لبرهةً قبل أن تقول..
"اممم.. لو فكرتي زين هتلاقي إن إتفاقك عليا مع سلسبيل اللي قولتيلي عليه ده هتطلعي منه خسرانة.. إنما لو اتفقتي معايا أني هتبقي أنتي لوحدك مَرات عبد الچبار يا خضرا و أم الواد اللي هتچيبوا ضُرتك كمان"..
جحظت أعين "خضرا" على وسعهما، و نظرت لها بلهفة، كالغريق الذي كان على وشك الموت و أخيرًا وجد منقذه..
"قوليلي كيف يا أمه أحب على يدك"..
نطقت بها بنبرة ملتاعة، و هي تميل على يدها تحاول أمساكها لتقبلها بتوسل..
دفعتها" بخيتة " بعيدًا عنها بعنف مردفة بغضب..
"أمه.. دلوجيت بتقوليلي يا أمه يا بت المركوب بعد ما كنتِ بتفقعي مرارتي بعاميلك العفشة و حديتك الماسخ"..
ضربت" خضرا " على صدرها بكف يدها بحركة استعطافية مرددة..
"حقك علي راسي يا أمه.. مهعملش أكده مرة تانية واصل.. بس قوليلي كيف أكون مَرات عبد الچبار ، و أم إبنه لحالي من غير ضُرة.. إلا الضُرة مُرة و مرارها واعر قوي"..
انبلجت ابتسامة شريرة على ملامح" بخيتة" حتي ظهرت تجاعيد وجهها وهي تقول..
"تهمليها مع راچلها لحد ما يحصل المراد، و تبجي حبلة منه، وقتها تحطيها چوه حباب عينك و تشيلها من الأرض على كفوف الراحة لغاية ما تچبلنا الواد اللي هيخلص عليها و هي بتولده كيف ما قال الحكيم إن جلبها مش قد الحبل و الولادة، و أول ما تموت تاخدي أنتي الواد و تبجي أمه.. الأم اللي بتربي يا خضرا مش اللى بتخلف"..
فكرة راقت" خضرا".. لن تنكر أن حديثها قد راق لها كثيرًا، و تهللت اساريرها بسعادة، و دون ذرة تفكير منها حسمت قرارها بتنفيذ تلك الفكرة على الفور، و لكن ستظل تلك النيران التي تتآجج بقلبها مشتعلة لن يخمدها سوي شيئًا واحد فقط موت السلسبيل، الموت الذي لم تكن تظن بيومٍ أن تفكر فيه أو تتمناه حتى لعدوها..
بينما "بخيتة" ترمقها بنظرات مستهزءة لغباءها الذي صور لها بأن زوجها سيعود لها كما كان حين يُحرم من المراءة الوحيدة التي عشقها من صميم قلبه..
....................... سبحان الله العظيم.......
"عبد الجبار..
كان يظن أن بأمكانه التحكم بفيض مشاعره التي أغرق بها معشوقة قلبه و روحه، و أن الأمر لن يكون إلا مجرد قبلة شغوفة و يبتعد عنها في الحال، و لكن قد حدث ما كان يتمناه قلبه الملتاع منذ أن أصبحت زوجته..
انجرف بقاع بحر غرامها دون أدنى إراده منه، لأول مرة فشل في السيطرة على رغبته الجامحه بها، انفصل معاها عن العالم أجمع مكتفي بوجودها بين ذراعيه، لا يعلم كيف و متى و كم من الوقت بقي ينهال بجنون من شهدها لعله يشبع ظمأه منها،
لم ينتبه على كل ما يدور حوله، رنين هاتفه المستمر حتى نفذت طاقته و أنطفئ تمامًا ، طرقات العاملين من حين لأخر، كان معاها و بها و لها فقط..
"عشجان.. أني عشجانك يا سلسبيل"..
غرد بها داخل أذنها بصوتٍ هامس من بين أنفاسه اللاهثه المهتاجة، و هو يسير بوجهه المتناثر عليه حُبيبات العرق، على وجهها المتوهج بحمرة الخجل..
"عبد الجبار".. همست بها بأنفاس متهدجة من بين شفتيه التي تغمرها بوابل من القبلات المتلهفة، يستعد بها لأخذها بجولة أخرى من جولاتهم شديدة الخصوصية،
لكن!!! همسها هذا أفاقه من نوبة جنون عشقه بها، تخشب جسده لوهله و قد أدرك ما فعله للتو، و من ثم انتفض من فوقها فجأة كمن لدغه عقرب سام، أو بالأصح كأنه تحول هو لهذا العقرب و قام بلدغ أغلى و أحب الخلق لقلبه..
"سلسبيل!!!!".. صاح بها صارخًا بقلب مرتعد، و هو يخطفها داخل صدره، اجلسها على قدميه، و بدأ يتفحص كل أنش بها، و هو يصيح بصوتٍ جوهري دون أن يتركها من يده..
"عفاااااف.. شيعي لحسان يچيب الدكتور"..
"عبد الجبار أهدي.. أنا كويسة"..
أردفت بها و هي تحتضن وجهه بين كفيها الصغيرين، لكنه أسرع بضم يدها بين قبضة يده الضخمة يتحسس برودة بشرتها، و يجذب الغطاء عليها بخوف يخفي به جسدها العاري، و عينيه تشملها بنظرة يملؤها العشق، و الندم معًا مغمغمًا..
"حاسة بأيه.. في حاچة بتوچعك.. قوليلي يا بت جلبي"..
أنهى جملته، و أسرع بوضع راحة يده على موضع قلبها يستشعر نبضاته، دست نفسها هي بين ضلوعه، و لفت كلتا يديها حول خصره، و ضمته لها بكل ما أُتيت من قوة، و أطلقت تنهيدة طويلة و هي تقول بستحياء بصوتٍ بالكاد وصل لسمعه..
"مبسوطة.. أول مرة أبقى مبسوطة كده"..
رفعت وجهها، و نظرت داخل عينيه بعمق مكملة..
"مبسوطة عشان بقيت مراتك أنت.. أنت بالذات يا عبد الجبار"..
هدأت وتيرة أنفاسه قليلاً حين رأي ملامحها التي توردت و كأنها تفتحت كالوردة بعدما تشبعت من حبه و أهتمامه بها..
في هذه اللحظة ضمها له بيديه و حتى قدميه لعله يطمئن قلبه الذي أوشك أن يغادر صدره من عنف دقاته،
مرت لحظات و هو محتويها بجسده كما لو كانت ضلع من أضلاعه، حتى استمع لطرقات على باب الغرفة يليه صوت "عفاف" تتحدث بقلق قائلة..
"الدكتور وصل يا عبد الجبار بيه"..
على مضض ابتعد "عبد الجبار" عن زوجته، و هرول بلملمة ثيابه المبعثرة على الفراش، و الملقاه أرضًا و ارتداها علي عجل، و عينيه لم تتزحزح عن "سلسبيل" المختبئة بخجل أسفل الغطاء، شهقت بخفوت حين شعرت بيديه ترفعها بمنتهي الخفة، و قام بمساعدتها على أرتداء روب من الحرير الناعم أبيض اللون، احضره لها بلمح البصر من الغرفة الخاصة بثيابها،و حجاب كبير قام بوضعه على رأسها أخفي به شعرها و روبها بأكمله..
أغلقه جيدًا حولها قبل أن يسير تجاه باب الغرفة بخطي واسعة، و قام بفتحه و هو يتحدث موجهه حديثه للطبيب بنبرة لا تحمل الجدال..
"أسرع بالكشف على زوجتي، و تحدث معي باللغة الإنجليزية عن حالتها الصحية "..
"تحت أمرك عبد الجبار بيه"..
نطق بها الطبيب الذي اندفع مسرعًا تجاه "سلسبيل" الجالسة على الفراش بأريحية،و إبتسامة دافئة تزين ثغرها المزموم..
بمنتهي الدقة أنتهي الطبيب من فحص شامل لها أمام " عبدالجبار " الجالس بجوار زوجته، محاوط كتفيها بلهفة..
" اطمئن زوجتك بخير حال و لا يوجود أي خطر عليها"..
تتنقل "سلسبيل" بينهما بنظرات منذهلة، و هي تري زوجها يتحدث اللغة الانجليزية بطلاقة، ليتابع الطبيب بتعجب قائلاً..
"هل نسيت إتفاقك معي حول ما أقوله عن حالتها!!! "..
تنهد "عبد الجبار" بأسف، و قد ارتجف قلبه بخوف و هو يتخيل رد فعل زوجته إذا علمت باتفاقه هذا..
"لا لم أنسى اتفاقنا ، و لكني لم أنسى أيضًا أن قلبها كان على وشك أن يُصاب بجلطة، و لا أريد أن يتكرر الأمر ثانيةً"..
"في أيه يا عبد الجبار.. فهمني"..
همست بها "سلسبيل" لزوجها بصوتها الذي يُذيب عظامه، فضمها له بقوة أكبر مقبلًا جبهتها، و هو يقول..
"اطمني.. أنتي زينة يا ست الهوانم"..
نظر لطبيب وتابع بصرامة..
" مش أكده يا دكتور"..
الطبيب بعملية و بعض الخوف من قسمات "عبد الجبار "الجادة" احححم.. أيوه حضرتك كويسة جدًا يا مدام اطمني"..
أردفت "سلسبيل" بلهفة و فرحة غامرة قائلة..
"أيوه أنا الحمد لله حاسة أني احسن بكتير.. يعني أقدر أحمل و أكون أم مش كده يا عبد الجبار "..
كان قد غادر الطبيب برفقة "عفاف" التي أغلقت الباب خلفها، و بقي بمفرده ثانيةً مع زوجته، انبلجت إبتسامة لعوب على محياه قبل أن يميل عليها يحاصرها بجسده لصقها به، و يده تتسلل ببطء نحن حجابها و روبها الحريري نزعهما عنها مغمغمًا..
" رايده تبجي حبله مني يا سلسبيل!! "..
لم تنطق بحرف واحد، اكتفت بالنظر له عينيها تتحدث لعينيه بكلمات نابعة من قلبها جعلته يغيب بها عن العالم حوله من جديد..
الليلة استقبلنى بكل جنوني،سأنزل بضيافة عينيك كحورية..
راقصنى فخلخالى لن يوقف رنينه ثانية،
وعانقنى أعزف على أوتاري موسيقى اللهفة،فشعوري شعور طفلة عارية دثرتها بمعطفك الدافئ، قطة صغيرة تقف بمنتصف الطريق مذعورة من الحافلات الضخمة، وجدت ركنًا احتضنها بظلاله، وجدت بين ضلوعك يقطينة تدلل بؤسها، و تزرع بحدائقي يقينً بعدما كاد أن يبتلعني حوت الشك، و عتمة الخذلان..